السبت، 16 يناير 2010

فرنسا تفرض ضرائب باهظة على (العناقريب السودانية)

سويسرا تطالب الحكومة السودانية بخفض أسعار العرديب.!!

(1)

أحياناً كثيرة أجلس مع نفسي وأبدأ في سرد حالنا الأغبش الأسحم المنعكس إلى أسفل والمغلوب على أمره ستة/صفر، كرتنا السودانية مستقبلها أسود من قلب الكافر، شبابنا أحجم عن الزواج بسبب الفلس، وهم ذاتهم صار مستقبلهم أسود من قلوب كفار قريش مجتمعين، ارتفعت سن العنوسة إلى 35 عاماً، لا توجد وظائف شاغرة تكفي أرتال الخريجين، الذين منهم من دخل السوق ومنهم من ينتظر.!

ثم أبدأ في تخيّل كيف سيكون الحال لو كنّا أفضل مما نحن عليه الآن؟.. ولست أدري لماذا يرفض البعض الخيال؟.. ويصّر أن يقفل أحلامه في صندوق الواقع فقط، فالخيال يحمل في داخله بعض الأمل، ويعطي النفس بصيص من نور في تصوّر حال أفضل، فـ الكل مرتبط بالواقع ارتباطاً يكبّله عن تصوّر المستقبل ولو ليوم فقط.!

وإذا لاحظت ستجد أن الشخص الذي يأتي بفكرة غريبة عن الواقع يطلقون عليه أنه (زول خيالي)، وأنه لا يعيش واقعه، وبعض آخر يعتقد أن الخيال عيب كبير في تركيبة الفرد، في حين أن الخيال كان ولا يزال هو الطريق المُمَهد للوصول لواقع أفضل، الكهرباء كانت خيالاً، التلفزيون، التلفون، السفر إلى الفضاء، كل المخترعات في يوم من الأيام كانت خيالاً، ولكن من اخترعوها وتوصّلوا إليها لم يكونوا يغلقون أنفسهم في الواقع فقط، لم تكن السماء فوقهم بهذا الانخفاض الذي نعيشه اليوم، كانوا يطلقون لخيالهم كل حرّيته ليتخيلوا ما أرادوا، البعض كان يسخر منهم ويصفهم بالسذاجة، بعض آخر كان ينعتهم بـ العته، ولكن على مرّ العصور ثبت أن الخياليين هم من جعلوا عالمنا اليوم أفضل مما كان عليه، هم من اخترعوا لنا كل ما نستعمله من تقنيات، وأنه لولا خيالهم لما كنّا نستمتع بما صنعوه من حصاد خيالهم، هُم كان خيالهم يقودهم لإيجاد شيء جديد، أما نحن.. فخيالنا، نتمنى فقط أن يزرع في نفوسنا الأمل لمستقبل جميل.!

(2)

لكن اليوم دعونا نخرج من الواقع قليلاً، وهذه دعوة لكي تكون خيالياً بعض الشيء، دعونا نتخلىّ عن المنطقية ولو ليوم واحد، ونسبح في فضاء الخيال الواسع العريض، أن نطلق لتصورّاتنا العنان، ونتركها ترفرف في سماء اللامعقول، واقترح أن نبدأ بـ (كرة القدم)، ما رأيكم لو تخيّلنا بعد عدد مفتوح من السنوات –متروك لخيال القارئ الكريم- أن فريق (حلة أم بعتوت) هزم الأرسنال خمسة/2 في إستاد (أم بعتوت) العالمي، وذلك في مباراة ودّية لتعزيز الصلات بين الفريقين، وأن الأرسنال بعد المباراة أبدى رغبة جادة في تسجيل اللاعب (مُدّثر شلوت) في خانة رأس الحربة، وتسجيل (حسن سافوتة) في خانة الباك الشمال، والجهاز الفني لفريق (حلة أم بعتوت) يدرس الأمر، والصحف العالمية تتوقع أن يرفض العرض.!!

تخيّل معي فقط أن الصحف الرياضية عندنا صارت مانشيتاتها البارزة تحمل أخبارا مثل: (هلال الفشاشوية) يهزم ريال مدريد عشرة/2، (مريخ حلة أم عكاز) شمال غرب كوستي يكبّد (أستون فيلا) هزيمة ساحقة بفوزه تسعة/1.!!

ومن جانب آخر سجّل فريق (برشلونة) لاعب وسط منتخب (حلة فطسوها أولاد حمد) المشهور بـ(حمدان أبو تِفّة)، ويعقد عليه الآمال في تصدر الدوري الأسباني هذا الموسم.!!

الخيال جميل يا عزيزي القارئ وليس معناه أن الشخص الخيالي يتهرب من الواقع ويعيش في دنيا حالمة تخصه هو وحده، فمن الممكن أن تكون واقعيّاً جداً، وتعيش وتلتحم في واقعك بالطول والعرض، ومع ذلك أن تكون متسع الأفق، لا يحدّ خيالك حد، أن تكون واقعياً هذا شيء رائع، ولكن ليس معنى هذا أن تحجم خيالك عن التصوّر وتجعله يلف في مدار واقعك فقط.!

والآن ما رأيك أن نتقدم قليلاً ونتخيل وضع كرة القدم عندنا بعد خمسين عاماً، وأن الفريق القومي يفوز بكأس العالم للمرة الثامنة على التوالي، وكابتن المنتخب (عوض شطة) يصف الأمر بأنه مُمل.!!

(3)

لنر ماذا عن الاقتصاد، الآن السودان صار من الدول العسكرية والصناعية الكبرى، وأننا في الصحف السياسية صرنا نسمع أن روسيا تكمل آخر قسط من صفقة الأقمار الصناعية السودانية التي اشترتها العام الماضي، والولايات المتحدة الأمريكية تستورد من السودان عدد من الصواريخ عابرة للمجرات من طراز (الجاتك في مالك سامحتك)، وأمريكا تطالب بمهلة للسداد.!

ألمانيا توقف صناعة السيارات المرسيدس، بسبب إغراق السوق بالسيارات السودانية من ماركة (ماشة معاك باسطة).!

تم افتتاح كوبري البحر الأحمر الرابط بين جدة/ بور تسودان، والسلطات تتخوف من الهجرة العكسية.! البلاد تقفل ملف تشغيل الخريجين وتحتفل بتوظيف آخر عاطل في البلاد.!

من جانب آخر.. سويسرا تستورد خمسة آلاف طن من (بودرة الويكة الأصلية)، وتطالب الحكومية السودانية بخفض أسعار (العرديب).!

السلطات السودانية تحبط محاولة تسلل مهاجرين من فنلندا تسللوا عبر الحدود، وبالأمس تم ترحيل عشرة آلاف لاجئ سويدي كانوا يعسكرون في منطقة (الفشقة).. أثر الحرب الأهلية في السويد.!

البلاد تحتفل بتحويل مقر الأمم المتحدة من أمريكا إلى منطقة الفتيحاب، ومحكمة العدل الدولية تطالب الحكومة السودانية بتحويل مقرّها من (الفكي هاشم) إلى (الحاج يوسف الردمية)، فرنسا تفرض ضرائب باهظة على (العناقريب السودانية).. والسودان يستخدم حق الفيتو.!

(4)

فكرة المقال مأخوذة من رسالة عبر الإيميل مجهولة المؤلف بعنوان (السودان عام 2050م) أرسلها أحد الأصدقاء ورد فيها أن:

- السودان يلوح بفرض عقوبات على بريطانيا، إن لم تتخذ الأخيرة إجراءات جادة في شأن النزاع القائم في غرب أوربا.!

- الخرطوم ترسل تعزيزات أمنية لمنطقة شمال المسيسبي، والناقلة الحربية (اللعوتة) تصل المياه الإقليمية في البحر المتوسط لوقف حمام الدم بإيطاليا.!

- انهيار لناطحة سحاب بشرقي مدينة (حجر الطير) تؤدي بحياة المئات.!

- مجلس بلـدية (الـشقلــة عوج الدرب) يمنـع استيراد أي ثلاجـة أو بوتوجـاز لا يمكن توصيلهـا بالإنتـرنت.!

- السودان يحث دول الخليج على الوفاء بسداد ما عليها من ديون مستحقة له .!

- فوز الفلم السوداني (السخلة الزرقاء) في مهرجان كان السينمائي!.

- سقوط القمر التجسسي السوداني في البحر الأبيض المتوسط، والخرطوم تنفي امتلاكها له.!

الثلاثاء، 12 يناير 2010

ثقافة (الدوزنة السرابية) و(اندياحات الغروب) .. إن شاء تطير.!!

(1)

منذُ وقتٍ طويل.. كنتُ أظنّ أنّ الثقافة هي حشد أكبر عدد من المعلومات العامة في دماغ المُثقف، وأن المُثقف هو الذي عندما تسأله عن مساحة دولة (كانوكان) يجيبك بها فوراً، كنتُ أعتقد أن الشخص المُثقف هو الذي يتحدث بكلام لا يفهمه إلاّ المثقفون، وأنّ البقية لم يصلوا لمرحلة فهم ما يقوله بعد، كنتُ أظنّ أن المُثقف هو ذلك الذي يكون حديثه على غرار:

- أن الدوزنة السرابية.. هي التي تتفق مع تيار الدهشة المتواطئ .. المتعانق مع الفجر البازغ عند حلول السرنديب.!

كنتُ كذلك أعتقد أن الكاتب المُثقف هو ذلك الذي يكتب كلاماً يُفهم بأكثر من عشرة ملايين معنى، مثلاً أفترض أن أحداً ما كتب هذه السطور:

- إن الشروق وإندياحات الغروب.. تأرجحت بين التدوزن تارة .. وبين الأحاسيس السرمدية .. المُكتشهبة المُتحنبلة التي مدت رأسها طويلاً.. حتى تقاطعت في الأفق الحلزوني مع ازدواجية الرؤية عند الذين لا يحضرون غيابهم.!

هذه الكلمات قد يقرأها أحد ما ويهتف بانبهار قائلاً:

- يا سلاااام .. والله الزول ده مليان ثقافة فُل .. (الذين لا يحضرون غيابهم) ديل أكيد يكونوا ناس عربية النفايات.!

وقد يقرأها آخر فيخلف رجله اليمين على أختها الشمال ويلوح بالصحيفة بثقة ويقول:

- طبعاً الكاتب ده من النوع الذي لن تفهم ما يقوله إلا إذا قرأت ما بين السطور .. (الشروق واندياحات الغروب) دي يكون قاصد بيها أكبر حزبين في البلد .. والتي مدت رأسها طويلاً دي تكون الأحزاب التانية .. و(الذين لا يحضرون غيابهم) ديل أكيد فلول المعارضة الذين احتموا بأعداء الإسلام.!

فـ ينبري له أحد الجالسين مقاطعاً بقوله:

- يا جماعة إنتو ما فهمتو الراجل ده قاصد شنو.. (اندياحات الغروب) دي يكون قاصد بيها أسعار السكر التي مدت رأسها طويلاً .. و(الذين لا يحضرون غيابهم) ديل أكيد تجار السكر الرفعوا السعر.. حتى كادت أن تنقطع أنفاس المواطن ذي الأحاسيس السرمدية.!

نعم .. كنتُ أعتقد جازماً أن المُثقف هو ما ورد أعلاه، وهو الذي عندما يكتب عبارة ما، فإنه يقصد بها ألف معنى، وعندما ينطق بكلمة، فإنها لابد من أن معناها يمكن أن ينوء بحمل بعير، وعندما تسأله عن وزن الفيل عندما يبلغ أربعين أسبوعاً في بطن أمه، سيجيبك بلا تردد، وعندما يسألونه عن عدد القطط التي تربيها خالة الرئيسي الموزمبيقي الأسبق، سيكون ملّماً بها ..وقد يحاضرك في هذا الشأن إن لزم الأمر.!

(2)

بعد عدد من السنوات.. اكتشفتُ أنني كم كنتُ أحمق وقصير النظر، عندما أضعتُ عددا من سنوات عمري في حفظ عواصم دول العالم .. وتواريخ المعارك .. وسير الشخصيات البارزة .. إلخ. نسيتها.. ولو بذلتُ نصف هذا المجهود في قراءة أمهات الكتب، لصرتُ من علماء البلاد.

عرفتُ أن الذي يشحن رأسه بالمعلومات فقط، إنما هو عبارة عن نسخة من موسوعة موضوعة على رفّ مكتبة يعلوها الغبار، وأن المعلومات العامة هي ليست مقياسا لمعرفة مدى ثقافة الفرد، وأن الذي يملأ ذاكرته بمعلومات كثيفة، ليس أكثر ثقافة من غيره.!

توصلتُ إلى أن منهج الدراسة الذي كان –ولا يزال- ذروة سنامه الحفظ .. والمنهج معظمه عبارة عن حفظ معلومات عامة.. لا يُخرج هذا المنهج طالباً مثقفاً، لأننا –كطلاب عِلم- وبعد ستة عشرة سنة من الدراسة وحفظ المقررات من الغلاف إلى الغلاف، وصولاتنا في مرحلة الأساس.. ومرورنا مرور الكرام بالثانوية، وحتى أناخت جمالنا بأبواب الجامعة .. تأكدنا تماماً من أننا تخرجنا طلاباً نصف مثقفين.. إن لم يكن رُبعهم، أننا بعد ستة عشر عاماً من تعلم السباحة، اكتشفنا أننا وصلنا مرحلة أن نتعلم فقط (عدم الغرق).!

(3)

حتى بعد أن ودّعنا فصول الدراسة، وخرجنا إلى المجتمع والحياة، وجدنا أن ثقافة الشاب تُقاس حسب معرفته بأغاني الفنانين القدامى، صارت هي التي يقيسون بها معرفة الفتى من جهله، قد تسمع بمن يقول:

- ياخي ده زول جاهل ساكت.. أغنية (طير يا طير .. ومد جناحينك طُوال) ما عارف شاعرها منو؟

وجدنا أننا بُعثنا في زمن.. من لا يعرف فيه اسم فنان ما من القدماء فهو جاهل، ومن لا يعرف التاريخ الذي حفروا فيه البحر فهو جهول، ومن لا يعرف مُلحن الأغنية الفلانية.. فهذا زنديق يستحق الشنق في ميدان عام.!

القنوات صارّت كذلك تجتهد في تكريس ثقافة المعلومات المكبسلة والمضغوطة، فترى قنوات تقيم مسابقات تريد أن تثبت للناس أنهم أغبياء وحمير، وأسئلتها من نوع:

- متى مات بيطلاس بن خانوس البيزنطي.؟!

- متى وُلد بسطام بن جشم بن الصايعة.؟!

- من هو مؤلف كتاب: الأساليب الأكيدة.. في ذبح الخراف العنيدة.؟!

وتجد المذيعة الحسناء تنظر بثقة إلى المُتسابقين الجُهلاء، الذين لا يعرفون هذه المعلومات البسيطة، التي يعرفها أي طفل خرج من الرحم لتوّه، في حين أنّ مقدمة البرنامج نفسها لو انتزعوا منها الورقة الأنيقة، فـ لن تعرف الإجابة أبداً، والسيد مُعدّ البرنامج نفسه لا يعرف الإجابة، فهو في الغالب أتى بها من أضابير الانترنت، أو من موسوعة ما.!

(4)

أظنّ -ظنّا من النوع الحميد الذي لا إثم فيه- أنه لا توجد فائدة ملموسة عندما يعرف الشباب الحالي مساحة أو عدد سكان دولة ما، فهذه معلومات موجودة في الإنترنت وفي أي دائرة معارف، وإنها نوع من ثقافة الكلمات المتقاطعة التي يصر الجميع على أنها الثقافة ولا شيء سواها، قليل من المعلومات العامة مفيد، ولكن لا أن تكون هي ركيزة ثقافة الشباب، فـ الثقافة هي أن تستخدم ما تعرفه مما قرأته وسمعته وشاهدته في تكوين مفهوم متكامل للمجتمع وللعالم من حولك، الثقافة هي كيفية التعامل بالمعارف التي اكتسبتها خلال رحلتك نحو المعرفة، الثقافة هي أن تعيد تدوير ما استوعبته وتخرجه للعالم في شكل جديد، وأفكار متجددة، الثقافة هي أن توصل رسالتك بأسلوب يفهمه الصغير قبل الكبير.!

(5)

أخيراً

ليس من الحكمة أن تعرف أن 2+2=4 .. ولكن الحكمة أن تعرف لماذا 2+2=4!.

الأحد، 10 يناير 2010

العبد لله .. رجل أعمال..!!

(1)

كنتُ أتمنى أن أصبح مُخترعاً، أن آتي بشيء جديد يُخلدّ اسم السودان والعروبة وأمة الإسلام، ووجدتُ أن ذلك مستحيلاً، لأنني كنتُ أتلقى تعليمي في مدرسة تصرّ على تفريخ ببغاوات.. يشحنون رؤوسهم بالمقررات ليفرغوها في ورقة الامتحان، وينسون ما كتبوه بعد تسليم الإجابات مباشرة.!

بعدها تمنيتُ أن أكون فنانا تشكيلياً، كانت لدي مبادئ فن، إذ كنتُ أصمّم الجرائد والمجلات الحائطية للمدرسة وأنا في الصف الرابع، وأخطّ لافتاتها، ولكن لنفس السبب: هو أن المدرسة لم تسمع بعبارة (رعاية المواهب)، فتركتُ الفن التشكيلي إلى غير رجعة.

رغبتُ بعدها أن أكون إعلامياً، ولكن لم أكن، وذلك نسبة للأسباب السابقة مجتمعات.!

وهكذا سار بي الأمر، تمنيتُ أشياء كثيرة، وحلمتُ أحلاماً تكفي لإغراق الأسطول الأمريكي السادس كله، إذا وجدَتْ الفرصة السانحة والزمن الكافي، وبعد كل حلم وأمنية، أعود إلى صوابي مرة أخرى، وأتمنى أن يظل الحال على ما هو عليه، فـ ابن آدم عندما لا تتحقق أحلامه، تكون كل أمانيه ألا يرجع إلى الوراء، أن تكون على ما أنت عليه، لا تتقهقر ولا تتراجع؛ فهذا في حدّ ذاته حلماً يكاد أن يصير بعيد المنال.!!

(2)

هذه الأيام صارت إحدى أهمّ أمنياتي وأحلامي هي أن أصبح (رجل أعمال)، لأن رجل الأعمال -يا أحبتي- يستطيع أن يكون أي شيء، بإمكانه أن يكون فناناً وشاعراً وإعلامياً وكاتباً ومُلحناً وعالم فلك وخبيراً في الأشعة الكونية والثقوب السوداء إذا كان مُتحمساً، فرجل الأعمال بكل بساطة على تحقيق كل حُلمٍ قدير، عندما تكون رجل أعمال؛ هذا يعني أن هنالك صعاب كثيرة في هذه الدنيا ستُزال من أمامك، وحواجز أكثر ستختفي من حياتك، ونصيحة لك يا أخي: إذا أردت أن تحقق كلّ أحلامك في الدنيا، كُن رجل أعمال.! وهي شيء لا يتطلب المشقة والجهد الكبير كما يزعم البعض، واعتقد أن الوصول إلى مرحلة رجل أعمال ليس بالشيء الصعب، وإذا أردت أن تصير رجل أعمال؛ ببساطة كل ما عليك هو: أن تتحصل على المليار الأول، وبعدها سأدلّك على الطريق الذي يقودك إلى مصاف رجال الأعمال.!

وأعتقد أنني الآن في منتصف الطريق لتحقيق هذا الحلم، حُلم أن أكون (رجل أعمال)، أنا الآن (رجل) والحمد لله، ولكن تنقصني الأعمال فقط، وسأظّل رجلاً بلا أعمال حتى يتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض، ولكن لن أقتنع بأن أكون رجلاً فقط، فلابد للرجل أن تكون له أعمال، فرجلٌ بلا أعمال -في هذا الزمن الأغبر الأشعث الزاحف على بطنه- يعتبره المجتمع رجساً من عمل الشيطان.. فاجتنبوه يا أولى الألباب.!

والحقيقة أن الرجال ثلاثة: (رجل فقط)، و(رجل أعمال) و(رجل بلا أعمال).

الرجل الـ بلا أعمال أنت تعرف صفاته جيداً، وقد تكون أنت أقرب مثل.

ورجل الأعمال معروف، وهو من الممكن أن يكون أي شخص إلا أنت.

أما (رجل فقط)، فهذا النوع من الرجال لا أعرف كيف أصفه لك، ولكن (الرجل فقط) هو كل ما هو ليس برجل أعمال، وكل ما هو ليس برجل بلا أعمال.!

(3)

رجال الأعمال -يا عزيزي- لا يموتون أبداً، فمن النادر أن تسمع برجل أعمال مات، والحقيقة إذا سقطت قنبلة هيدروجينية مُعدّلة، وأبادت الحياة من على ظهر هذا الكوكب، سوف ينجو طُفيل الملاريا ورجال الأعمال.!

مصطلح (رجل أعمال) في حد ذاته جميل جدا، وأنا أشعر بمتعة عندما أتمطّق وأنطق به، (رجل).. و(أعمال) كمان، يا سلام.. فعندما تكون رجل أعمال فأنت لا تهتم لأشياء كثيرة في هذا الكون، أقلها أنك لا تنزعج بتاتاً إذا ارتفعت الأسعار، والحقيقة أن ارتفاع الأسعار لا يُشكّل أي مصيبة بالنسبة لرجال الأعمال، فقد خلق الله كائنات أخرى تحمل همّ هذه الأشياء البسيطة، وهم الرجال فقط، والرجال الـ بلا أعمال، لذلك يا عزيزي فوصيتي الخالدة لك هي: أن تكون رجل أعمال.! أنت ضع النية في قلبك، كُن رجُل .. وبعدها الأعمال بالنيات.!

من محاسن أن تكون رجل أعمال، هي أنك سيكون لك وزن وقافية وتشغل حيّزا في المجتمع، الجميع سيهتم بسعادتك، وسيزنون كلماتك بميزان الذهب، فرجل الأعمال عندما يبدو على وجهه الارتياح؛ فإن هذا خيرٌ للبشرية جمعاء، وإذا ابتسم فـ على الأرض السلام، وإذا ضحك فـ بالناس المسرّة.!

ولا تتهيب من أن تفكر في أن تصبح رجل أعمال، فرجال الأعمال هم بشر مثلنا، لا يزيدون علينا رأساً ولا قدماً، ولا يتفوقون علينا إلاّ بالأعمال، وأنت قد تتفوق عليهم بالأعمال الصالحات، فهم يضحكون مثلنا ويبتهجون وينفعلون، ويأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.

الحقيقة أنهم فعلاً يأكلون الطعام، ولكنه بالتأكيد ليس كطعامك، ويمشون في الأسواق، ولكن ليس هي ذاتها الأسواق التي تمشي فيها أنت، وهذا في صالحك لو كنت تعلم، فـ إذا قرر رجال الأعمال أن يأكلوا نفس صنف طعامك الذي تأكله أنت فهذه كارثة، سيصبح طلب الفول بنصف مليون، وإذا كانوا يشترون حاجياتهم من نفس الأسواق التي تشتري منها أنت، فهذه فجيعة، فبعد أقل من شهر، سيكون ثمن السفنجة الواحدة دي ربع مليون.!

رجال الأعمال متاح لهم أن يقولوا أي شيء في أي زمان ومكان، ولا أحد يعترض على كلام أحدهم، ومثال لذلك أن كل رجال الأعمال في الكون يقولون:

- (أن النقود لا تجلب السعادة)!!

كان الناس يفهمونهم بالخطأ عندما ينطقون هذه الكلمات الخالدة، ولكنني –حسب خبرتي وتجربتي الطويلة والعريضة والمنفرجة كرجل بلا أعمال- اكتشفتُ أنهم يقصدون:

- أن النقود القليلة هي التي لا تجلب السعادة.. أما النقود الوفيرة فتفعل ذلك بكل كفاءة.!!

من مساوئ وأضرار تشجيع كرة القدم

لستُ من هواة تشجيع كرة القدم، والحقيقة أن التشجيع هو آخر شيء يشغل بالي هذه الأيام، ولا أتخيل نفسي رابطاً رأسي بعُصابة لها لون وشعار الفريق، وأعتلي المدرجات وأصرخُ في هستريا صراخاً يشبه صراخ أسد يذبحونه في أحد مطاعم ألمانيا التي تقدم الأسود.. لو كان هذا صحيحاً، هذا شيء أراه مستحيلا، في حياتي لم أدخل إستاداً لتشجيع فريق ما، ولا أظن أنني سأفعل في المائة وتسعين سنة القادمة، وبما أنني أشاهدُ التلفزيون كل خمسة وثمانين سنة، لذا عندما أجد الفرصة لا أتابع مباراة متلفزة مهما كانت المغريات، وقنوات كرة القدم هي أول ما أتخطاه عندما أمسك بالريموت كنترول، وإذا سألني أحد لماذا؟ ستكون إجابتي أنني لا أستفيد أي شيء من تشجيع كرة القدم، بل واكتشفتُ أن للتشجيع مساوئ كثيرة جداً، سأتحفك ببعض منها.!

(1)

تشجيع كرة القدم يزرع المُكابرة في النفس، ويجعلك تعتقد أن كل أفراد ومشجعي الفريق الآخر أوغاد ويجب حرقهم أو سلخهم أحياء، وأنهم عبارة عن حمير ليس إلاّ، أنت وفريقك فقط على صواب، أما البقية فعليهم اللعنة، وهو مع ذلك يقتلع فيك روح الحياد من الأعماق، فأنت لن تعترف بنجاح خصمك بتاتاً، ومن المستحيل أن تجد ذلك المُشجع التقي الحكيم الذي عندما ينهزم يقول لك:

- أننا انهزمنا لأن فريقك هو الأفضل وأن فريقي لم يلعب بالمستوى المطلوب.!

لو رأيتِ مثل هذا الرجل يا ابنتي العزيزة فلا تفرطي فيه أبداً.!

(2)

التعصب في تشجيع كرة القدم يا عزيزي–شئت أم أبيت- يجعلك من مُدّعي الحكمة بأثر رجعي، حيث تجد أن مشجعاً عادياً، يطلق تصريحات عبقرية مثل أن:

- الظهير الأيمن (حسن شبُوتة) من المفترض أن يلعب في مكان الباك الشمال (مدثر شلّوت).!!

وبالطبع كالمعتاد.. أن أي مشجع يعتقد أن خبرته في الكرة أفضل من أي مدرب في الكون.!

(3)

من أكثر الأشياء التي لا فائدة منها في التشجيع هي: (النقاش في كرة القدم)، الكل يريد أن يثبت أنه الأفضل، وهو يعرف أن الآخر لن يقتنع، أحياناً قد تشهد مجموعة من الناس يتناقشون في شيء يخص كرة القدم، ولكنك لن تعرف أساس الموضوع بالضبط مهما كنتَ عبقرياً، وقد تجد الحوار على غرار:

- لا تجادلني يا جاهل .. الفشحخور أفضل بألف مرة من القشحلاظ .. !!

وبالطبع الآخر يحاول أن يثبت له العكس.!

أحياناً يتركون الكرة جانباً، وتجد أن (هذا) يريد أن يثبت أن (ذاك) أحمقاً، و(ذاك) يريد أن يثبت أن (هذا) وغدا.. بل وعتل زنيم.. وصفيق، وقد يصل النقاش إلى مرحلة: (وأخشى أن تطول يدايا منه ..إلى ما لا يطاوله لساني).!!

الأغرب تجد أن المُنهزم يجاهد كي يبرر الفشل، ولا يعترف بالهزيمة بتاتاً، ويجعلها أحياناً أفضل النصر، لم أجد لمثل هذا تشبيهاً فورياً، ولكنه في رأيي يشبه حبة الفاصوليا التي تتظاهر بأنها بطيخة.!!

(4)

تجد أن بعض المشجعين من هو كبير في السن، ومُصاب بحزمة أمراض أخفها السُكري، ومع ذلك تجده مُصاباً بمرض في القلب من النوع الذي يتفاغم بزيادة الانفعال، إذا حزن صاحبه حزناً شديدا قد يموت، وإذا فرح أكثر من اللازم قد يهلك، وتجد أن لدى الرجل كمية من الأدوية التي تُبتلَع وتُحقَن وتُشم وتُدهن وتُرش، أدوية تكفي لفرش شقة من ستة حجرات، وبلع الحبوب عنده أسهل من القزقزة بالفشار، وقلبو قاعد على الهبشة، وبعد كل هذا يجازف ويذهب إلى الإستاد ليشجع فريقه، وهو مهدد بالموت فرحاً إذا سجّل فريقه هدفاً، ومهدد بالموت حزناً إذا انهزم فريقه في المباراة، مثل هذا اعتبره يلقي بنفسه في التهلكة، وحسب رأيي أن هذا نوع من الشروع في الانتحار ليس إلا.!!

(5)

التشجيع يا عزيزي من أسباب فناء المال في غير محله، فأنت أحياناً تحتاج لهذا المال في البيت، فـ هنالك من يترك بيته بلا طعام ويدخل الإستاد كل ثلاثة أيام، يتابع كل مباريات الدوري، ويشاهد حتى تمرينات الفريق، ويشتري كل يوم خمس صحف رياضية، حتى ولو يبيت جائعاً.!!

(6)

التشجيع يُعزز روح الشماتة بين الناس والسخرية منهم، ومن المعروف عندما يشمت فيك أحد، ستغضب غضبة لو وُزعت على قبيلة (بني مخزوم) لأباَدتهَم عن بكرة أبيهم، ولن تترك مخزومي واحد حايم، وفي غضبتك هذه لو أن بيدك قنبلة نووية لألقيتها على (بني مخزوم) بلا تفكير.!

فـ من المفترض أن التشجيع يهذب النفس.. ويجعلها ذات روح رياضية عالية، تتواضع إذا انتصرتَ، وتحيي الفريق المنتصر إذا انهزمتَ، وتهنئه على فوزه، هذا ما يحدث بين اللاعبين بعد نهاية المباراة، ولكن المُشجعون يفعلون العكس تماماً، إذ يخرجون عن وقارهم، ويجعلهم التعصب يتصرفون تصرفات غريبة، فـ إذا رأيت هستريا التشجيع ستتأكد بأن القوم.. كل القوم قد فقدوا قطاعا لا بأس به من عقولهم، وأنهم أصيبوا بجنون البقر.. أو أنهم في الطريق إلى ذلك.!

(7)

التشجيع يا عزيزي إضافة إلى ما قد سبق، يؤدي إلى نشر الكراهية بين الأفراد والجماعات، وقد صار من أسباب القتل، وقد تكون قرأت قبل عدة شهور عدد من حوادث القتل بسبب التشجيع، ومنها أن مُشجعاً قتل صاحبه الذي يشجع الفريق الآخر، فتح رأسه بـ طورية أثناء نقاش كروي.!

بالإضافة إلى أن تشجيع كرة القدم من أهم أسباب الطلاق، وقد تكون سمعت بحكاية المرأة التي غاظت زوجها قائلة له:

- وييي .. غلبناكم.!!

فرد عليها بسرعة كاسحة:

- وييي طلقناكم.!!!

هسع في داعي لي ده؟!

(8)

تشجيع كرة القدم أحياناً يُفرق بين الابن وأبيه.. وبين الصديق وصديقه.. وبين الأخ وأخيه، ويوقر الحسد في القلوب، وينزع الوطنية من النفوس، منهم من يقول إذا لعب خصمي مع إسرائيل سأشجع إسرائيل.!!

التشجيع أحياناً ضار بالصحة .. وهو سبب في ارتفاع ضغط الدم والكلسترول.. ويورث الهمّ، ويؤدي إلى تلف الأعصاب، ويستنفد مخزونك من كظم الغيظ والاحتمال، ويجعلك من النوع قصير الفتيل، وفاقد التحكم نهائيا في أعصابك، وهو عبارة عن داء، من ابتلي به فقد ابتلى بشيء ثقيل على النفس والفؤاد.!

التشجيع يجعلك تتصف بالانطباعية في الحُكم على الناس، فأنت قد تتعرف على شخص رقيق الحاشية.. دمث الخلق.. ليّن العريكة، ومن النوع الذي لا يستطيع الفاعلون فعاله.. وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا.. وقد يُصبح صديقك في لحظات، ولكن ما أن تعرف أنه يشجع الفريق الآخر.. حتى تعتبره رجسٌ من عمل الشيطان.!

(9)

ختاماً -يا عزيزي- بالطبع أنا لا أقصد أن كل مشجعي كرة القدم كما ورد أعلاه، كلامي أعني به المتعصبين منهم، وحتى لا تزعل، أنت بالذات ليس كذلك، فـ المشجعون منهم من يتق الله حقّ تقاته، ويكفل اليتيم، ويشجع باعتدال، لا يسرف في الفرح إذا انتصر، ولا تؤثر الهزيمة على علاقته ببقية الناس، منهم من يشجع في بيته بصمت، لا يتشنج ولا يتعصب، منهم من لا يعطّل مصالحه من أجل مباراة، فإذا كنت من هؤلاء يا عزيزي .. فأنت ليس المقصود بهذا المقال .. بالتأكيد ليس أنت.!!

حكاية بطيخة قرّبت تخرب ليها بيت!!


(1)

على الرغم من أن الحياة الزوجية عبارة عن رباط مقدّس ومتين، إلاّ أن تفاصيل صغيرة يمكن أن تزعزعه، وقد تفتك به في لحظة واحدة، كمثال لذلك: المزاح الثقيل من أصحاب الزوج مع زوجته، كأن يقول لها أحدهم:

- والله الراجل ده لقينا ليهو عروس جديدة.!

مثل هذه المزحة، على الرغم من عدم جدّيتها، إلّا أنها تترك رواسب سالبة في نفس الزوجة، لذا من الأفضل الابتعاد عن هكذا مزاح.

كذلك توجد تفاصيل أخرى تنتج من أحد أصحاب الزوج بحسن نية، ولكنها قد تكون سبباً كافياً لـ دخول الشك في العلاقة بينهما، وقد تنكّد عليهما العيشة فيما بعد، ومثال لذلك (البطيخ)، فهو أحياناً قد يكون سبباً قوياً في خراب البيوت، ولهذا قصة.!

(2)

ذات يوم، وفي صباح باكر، عرج عليّ أحد أصدقائي في مكان العمل ، كان قد تزوج حديثاً في تلك الأيام، ودخل السوق ليبدأ عمله الذي كان يزاوله قبل الزواج، بعد أن سلّمتُ عليه، لاحظتُ أنه يحمل في كتفه بطيخة كبيرة، وضعها في ركن من أركان المكتب وقال لي:

- عليك الله يا أسامة خلّي البطيخة دي عندك هنا وبجي بشيلها منك نهاية اليوم.

ترك بطيخته وذهب، وأنا من باب فعل الخير، وضعتُ له البطيخة في ثلاجة مُلحقة بالمكتب، وقلتُ في نفسي: من الأفضل عندما يأتي ليحملها، أن يجدها باردة، وما عليه سوى أن يقطعّها ويأكل هو والمدام.. وبالهنا والشفا.!

(3)

نهاية اليوم رجع صديقي ليحمل البطيخة، التي صارت باردة كالقطب الجنوبي، نفضّتُ ما علق بها من جليد، وأعطيتها له مبتسماً وقلت له:

- ختيتها ليك في التلاجة، بقت باردة تمشي تقطّع بس.

ولكنه فاجأني بردّ فعل غريب، حكّ رأسه بـ حيرة وقال لي:

- والله يا أسامة داير تجيب لي مُشكلة مع المَرَة، هسي بت الناس دي تعمل لي تحقيق وتقول البطيخة دي كانت وين وجات من وين باردة كدة.؟

ضحكتُ بتعجّب إذ أنني لم أنظر للموضوع من هذه الزاوية، وقلتُ له:

- ما عندك مُشكلة، لو حصلت حاجة أتصل عليّ وبوضّح ليها الحاصل.!

حمل بطيخته بتوجّس، ورجعتُ أنا أكمل بقية أعمالي.

(4)

بالفعل حدث ما كان مُتوقعاً، اتصلتَ بي زوجته في نفس اليوم، وصاحت بصراخ عالٍ يصل من دمشق إلى حلب:

- هووووي يا أسامة قول الحقيقة، الراجل ده برّد البطيخة عندك، وللا مُعرّس ليهو واحدة تانية بـ الدس وأنا ما جايبة خبر.؟!!

ضحكتُ كثيراً ولم أتوقع أن يصل تفكيرها لهذا الحد المُروع، وقلتُ لها:

- اطمئني تماماً ما في واحدة تانية ولا حاجة.. الزول ده فعلاً برّد البطيخة عندي.!

قالت الولية بعدم اقتناع:

- والله أنا الموضوع ده ما راكب لي في راسي كلّو ..كلّو.. وما بصدّق إلاّ أشوف التلاجة دي بي عيني دي.!

قلت لها بلهجة واثقة:

- مرحب بيك وأنا منتظركم لمن تصلو.!!

(5)

بنت الناس سالفة الذكر، وصلتَ هي وعريسها الجديد، وكانت تعلو وجهها الشراسة والشك وعدم اليقين، طنطن صديقي -الذي هو زوجها في نفس الوقت كما تعلمون- وقال لي بغيظ:

- هسّع عليك الله مُبرّد البطيخة دي مالك عليها.. في زول قال ليك برّدها؟

قلت له ببراءة:

- والله أنا قلت أعمل عمل خير.. يعني حـ تنتظرها لمتين لمن تبرد، أحسن تلقاها باردة جاهزة.!

طنطن بغيظ أكبر:

- هسّع ده عمل خير وللا عمل شر؟

التفتتَ نحوي زوجته وقالت لي والشرر يتقاذف من عينيها:

- وريني سريع التلاجة دي وينها .. الظاهر الشغلانة دي فيها إنّ.. والله الليلة ما ألقى تلاجة هنا إلاّ إنت وصاحبك ده تشوفوا ليكم بلد تطفشو عليها.!!

دخلنا المكتب وأريتها الثلاجة، ولم تصدّق حتى فتحتها لها ورأت أنه بـ الإمكان إدخال بطيخة كبيرة في الثلاجة، إلاّ أن وجهها لم يبدُ عليه الاقتناع، وقالت بلهجة غير المصدق:

- غايتو !!.. لكن لسة نفسي محسكنة .. وكلامكم ده ما واقع لي.!

صفق زوجها بيديه في حيرة، وقلتُ لها: أنه كان هنالك شاهد عيان رأي عملية إدخال البطيخة في الثلاجة لحظتها.!

قالت بلهفة:

- وينو الزول ده جيبوا لي سريع.

بالفعل ذهبتُ لأجلب الشاهد الذي شاف كلّ حاجة، وحكى لها الموضوع من بدايته، بعد كل هذا لم تقتنع إلاّ بعد أن أقسم لها بالله وبالكعبة المشرفة وبعيونه التي سيأكلها الدود.!

ذهبت الفتاة شبه مقتنعة بحمد الله، ونظر لي زوجها نظرة وداع شريرة، فسّرتُ معناها بـ:

- تاني أوعاك تخُت بطيخة زول متزوج في التلاجة يا جاهل.!

(6)

الحقيقة إذا كان هنالك درس ستخرج به من هذه القصة، هو:

- إذا كنت متزوجاً، وأتيت ببطيخة لصاحبك ليحفظها لك حتى تعود من العمل، ووجدتَ هذا الأحمق قد بردّها لك في الثلاجة.. أقو لك نصيحة أخوية في الله:

- خلّي ليهو البطيخة دي في محلّها .. وأمشي أشتري ليك بطيخة تانية.!



يا حليل زمن الأصلي.!!

(1)

كلمة (أصلي) صارت من المُصطلحات النادرة هذه الأيام، وصار من الصعوبة بمكان أن تجد مُنتجاً أصلياً ما دام أن هنالك دولة اسمها (الصين)، وما دام أن هنالك دولة أخرى تُسمى (كوريا)، وثالثة اسمها (تايوان)، هذه الدول وغيرها كادت أن تمحو مصطلح كلمة (أصلي) من قانون البضائع، إذ تُمسك بقطعة أي شيء يقع أمامك، يغلظ لك البائع في القسم، ويحلفُ بربّ الدّاميات نُحورها، وما ضمّ أجماد اللبين وكبكبُ، بأنها أصلية، وهي ليست كذلك، وبالطبع صرتُ لا أصدّق أكذوبة أن المنتج الأصلي مُلصق عليه ورقة صغيرة مميزة لامعة تشبه الختم البارز، وبالمنطق إذا كان بمقدور مصنع ما أن يقلّد سلعة لدرجة التطابق، فلا يغلبه أن يقلّد هذا الملصّق، وبالتالي اختفت تلك الأشياء التي كانت تميّز المنتج الأصلي من التقليد.!

وأذكر قبل عدة شهور اشتريتُ أربعة أقفال (كوالين) لدولابي العزيز، فتفاجئتُ بأن الأقفال الأربعة من المُمكن فتحها بمفتاح واحد، بل واكتشفتُ أن هذه الأقفال يُمكن فتحها بأي شيء: بينسة، إبرة خياطة، مسمار صغير، عيدان أسنان، وبإمكانك أن تفتحها بذيل سحلية إذا كنت متحمساً بعض الشيء، لستُ أدري كيف يُسمح لبضاعة كهذه بالتسرب للأسواق، فـ إذا مرّت بحالتها هذه من تحت ذوي الشأن فهذه مُصيبة، وإذا لم تمرّ من تحتهم فهذه كارثة، وهذا نموذج فقط، وغيرها الكثير مما يصعب حصره.!

(2)

التقليد دخل كذلك في عالم العطور، وأنا أتعبُ كثيراً حتى أجد عطراً أصلياً، في الماضي كنتُ أثق في ذوق البائع، إذ أطلب منه أن يختار لي عطراً على ذوقه، ولما اكتشفتُ فساد أذواق معظم البائعين الذين أوقعني حظي التعيس في دربهم؛ استسلمتُ للأمر الواقع، إذ صرتُ أشتري حسب الحظ، فبما أنني ضجر ولا أواظب على نوع واحد من أي شيء، تجدني أتنقّل كل مرة من نوع لآخر، فـ أحياناً –بالصدفة- أقع في عطر جيّد يجعلني أحسّ أن الدنيا لا زالت بخير، وأحياناً أخرى أقع في ورطة عطر، عندما أبخّ به ملابسي وأخرج للشارع العام، أجد أن أثره قد اختفى وكأنني تعطّرتُ بالماء الصافي.!

والله زمان قالوا لو اتعطّرت بي عطر، تغسّل القميص وتكويه تسعة مرات، وتلقى باقيهو لسة قاعد، لكن الأيام دي تتعطر وتمرق الشارع، تاني كلب بوليسي ما يقدر يشُمّك.!

(3)

في عالم الصنايعية صار من النادر أن تجد صنايعي أصلي، وأقصد بالصنايعي هُنا: النجار، الحدّاد، الميكانيكي، الكهربجي، البنّاء، السبّاك، وكلّ من ينتمي لهذه القبيلة يمكنك إضافته لعالم الصنايعية، وذلك على مسئوليتي، فهذه الفئة المُهمّة جداً في المجتمع، صار يدخلها الكثيرون من معدومي الموهبة والخبرة، يقنعك أحدهم أنه أفضل صنايعي في الكون، وهو ليس كذلك، وكعادة الصنايعية في كل العصور، يبدأ في العمل وهو يشتم الكهربجي السابق الحمار، وكالعادة دائما أنت تقف أمام أبرع حرفي خلقه الله، وقد نجوت بمعجزة من الحُمقى الآخرين.!

(4)

اكسسوارات الموبايلات هي الأخرى صارت غير أصلية، أو معظمها كذلك، غطاء الموبايل الخارجي الذي يُسمى بـ (الكَفَر)، صار صانعوه لا يتقون الله فيه أبداً، تشتري (كفر) مخصص لموبايل معين، فتجده ليس في مقاسه، على الرغم أن (الكفر) صُنع خصيصاً لهذا الموبايل، ولكنك تجده إمّا أكبر منه أو أصغر، وإذا وجدته مطابقاً لمقاس موبايلك، فأنت بالتأكيد من الذين تدعوا لهم الوالدة بالتوفيق والسداد دبر كل صلاة، نعم.. أنّ هذا الأمر ليس أهم شيء يشغل بال المسلمين هذه الأيام، ولكنه مؤشر خطير لتمرير أي شيء إلينا ليس في مقاسه، وأحياناً تشتري بطارية موبايل لا تتسم بالصبر إطلاقاً، بعد أن تشحنها، ويعطيك الموبايل إشارة أنها شبعت من الطاقة، فإذا بها تنفد من مكالمة لا تتعدى الربع ساعة!.

يا حليل بطاريات زمان، إبان أول ظهور للموبايلات، كانت البطارية تنفد بعد أسبوع، أما هذه الأيام إذا أمطرت السماء بطاريات، ما أظن تلقى منهِن بطارية تتم ثلاثة أيام.!

(5)

الأيام دي الحب ذاتو بقى ما أصلي، يعني ما زي حب زمان، قال الشاعر (العباس بن الأحنف) وهو يصف أحد المُحبين:

وَإِذا نَظَرتَ إِلى المُحِبِّ عَرَفتَهُ * وَبَدَت عَلَيهِ مِنَ الهَوى آثارُ

حَمَلوهُ بَينَهُمُ نَحيلاً جِسمُهُ * عاري العِظامِ ثيابُهُ أَطمارُ

تعال إلى أي حديقة، مجانية (حبيبي مفلس)، أو غير مجانية (حبيبك ليس مفلس)، وأنظر إلى المُحبين، أتمنى أن تنظر من بعيد، من الأفضل أن تنظر من بعيد شديد، عشان بعدين يوم القيامة وكت يسألوك من غض البصر ما تقول (أسامة) قال لي عاين، يعني ما تبقّيني ليك سبب ساكت، إذا نظرتَ تجدهم وبحمد الله (سُمان وأُمان)، وهذه جمع (سمين وأمين)، فهذه الأيام من النادر أن تجد فتاة أو فتى أنحل الحب جسده، وصار عاري العظام وعليه من الهوى آثارُ، بل بالعكس تماماً، ستتوصل إلى نتيجة: أن الحب صار أحد أهمّ أسباب السمنة في البلاد، وحُب بِسمّن الزول ده حب لا أصلي ولا حاجة، والله الحب ده زمان قالوا كان بكتل عديل، قال (جميل بثينة):

ألا أيها النُّوّامُ، ويحكُمُ، هُبّوا!.. أُسائِلكُمْ: هل يقتلُ الرجلَ الحبّ؟

أي والله زمنكم كان بِكتل يا شيخ (جميل)، إلاّ هسي ما أظن.!


ضربة في الكلب..!!

(1)

الخوف من الكلاب غريزة بشرية قديمة، إذ أن الإنسان درج على الخوف من كل حيوان من فصيلة آكلي اللحوم، والخوف من الكلاب أحياناً يصل إلى درجة المرض، هُنالك من الناس من لديهم ظاهرة خوف مرضية تجاه حيوان معين، ليس بالضرورة أن يكون كلباً، تجد من يخاف من الضفادع، وغيره من الضب، وثالث من السحالي، على الرغم من الأخيرة لا تؤذي البشر إطلاقاً؛ إلا أن البعض يخاف منها إلى حد الموت، وقد تكون سمعت بـ حوادث من نوع: فتاة ماتت لأن أخاها الصغير رمى فيها ضفدعة، أو شاب في ريعان شبابه مات رعباً عندما وجد ضباً في بنطلونه.!

أما الكلب فـ يختلف، فهو من أكثر الحيوانات الأليفة التي تسبب الرعب في النفوس، ومن الناس من يُصاب بخوف هستيري يجعله يقع في النهر وهو لا يعرف السباحة من أجل الهرب من كلب مذعور.!

والحقيقة أنني لستُ أدري لماذا يُربي شخص ما كلب شرس في بيته؟ خصوصاً إذا لم يكن يملك شيئاً مهماً يخاف عليه من ذهب ونقود ومصوغات وغيرها، كلبٌ كهذا لن يجلب له سوى سخط المارّة والجيران، إذا انفطر قلب سيدّة من الرعب بسبب نباح كلبك، سيكون ذنبها عليك، إذا عضّ ابن الجيران، فأنت المذنب، إذ سرق عشاء جارك، لا أحداً يتحمّل هذه المسئولية سواك، وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب)، والحقيقة أن الكلاب الشرسة في المنازل ترهب السكان الآمنين أكثر من اللصوص، قد يقول أحدكم أن الكلاب تمنع اللصوص من الاقتراب من المنزل من البداية، ولكن اللص إذا أصرّ على دخول منزل ما، سيدخله حتى ولو كان يحرسه نمر من فصيلة الببر.!

(2)

ذهبتُ ذات مرةّ لصديق لي كان يُربي كلباً ضخماً، لونه أسود شنيع، ولا يصلح كحيوان منزلي بتاتاً، وخُيل لي أن الكلب عبارة عن خليط غير موفق بين ذئب تعس وضبع قبيح، وهذا الكلب لا يميّز كثيراً بين اللصوص وبين المواطنين، كلّ همه ألاّ يقترب أحد من المنزل سوى أفراد العائلة الكريمة.!

طبعاً كعادة أصحاب الكلاب الشرسة عندما تنوي زيارتهم يقولون لك:

- لا تخاف آ زول.. ما بضُرّك نهائي.. ده كلب مُسالم.!!

والحقيقة أنني منذ زمن طويل كففتُ عن تصديق من يقول لي: أن كلبه مسالم، وهو في ذات الوقت يربطه بجنزير غليظ على باب المنزل.!

توكلتُ على الله وذهبتُ لزيارة صديقي على أساس أن الدنيا نهار والكلب مربوط في جنزيره، أنا لا أخاف الكلاب، ولكن ليس معنى هذا أن أكون أرعناً وأكلّف نفسي عناء حقن السعر التي تطعن تحت السرة مباشرة، من أجل إثبات شجاعة حمقاء، المُهم، طرقتُ الباب حتى كلّ متن العبد الله، وبدلاً من أن يفتح الباب صديقي، إذا بالكلب التعيس يعتلي الحائط بحماس غريب ليكشّر في وجهي وراسماً على وجه تعبيراً يقول:

- اليوم سأخرب بيتك أيها الملعون.!

نزل الكلب من على الحائط بثقة، وقف أمامي وجهاً لوجه، وصديقي الأحمق لم يأت ليفتح الباب بعد، تراجعتُ إلى الوراء ونظرتُ على الأرض لألتقط حجراً، ولكن كما تعلمون أن الحجارة كالمال تختفي حين تحتاج إليها، تقدّم الكلب نحوي بخطوة ولعابه يسيل من شدقيه، وتراجعتُ ثلاث خطوات، وتذكّرتُ هنا أنه في أحد أفلام الأكشن، أن بطل الفيلم واجهه كلب شرس يريد أن يفتك به، مدّ البطل يده بثبات وربّت على عنق الكلب وصار يدغدغه له، الكلب عجبه هذا المسّاج المجاني، فهزّ ذيله في مرح، نبح في سعادة وفتح له الطريق، حاولتُ أن أقلّد هذا الأسلوب، ولكن غيّرت رأيي بسرعة، ما أدراني لعلّ هذا الكلب لم يُشاهد الفيلم.!

وبعد أن تأكدتُ أنني في ورطة حقيقية، اتخذتُ وضعية (جاكي شان) في أحد أفلامه، ووقفتُ وقفة يُطلق عليها المصوّرون (ثلاثة أرباع خلفي)، كان من المُمكن أن أزيدك وصفاً في وقفتي أمام هذا الكلب اللعين، ولكنني كنتُ في ظروف لا تسمح لي بتحليل جماليات الكادر، خصوصاً وأنّ الوقت لم يكن مناسباً للتشبيهات الفلسفية، ولكن الحمد لله فُتح الباب، وظهر صديقي، أمر الكلب أن يبتعد، تصلّب الكلب وهو ينظر لصاحبه مترددا وفي عينيه نظرة تقول:

- دعني أعضّه هذه المرة فحسب.. وفي المرات القادمة سأكون كلباً مطيعاً.!

نهره بصوت عالٍ، و أخيراً هزّ الكلب ذيله بإحباط وذهب، تنفستُ الصعداء، والتفتُ إلى صاحبي بغيظ، وقلتُ له:

- لو إتأخرت تلاتة دقائق كان حـ تجي تلقى بواقي عظام.. وكلب مُصاب بـ عُسر هضم.!

ضحك باستهتار وقال لي:

- ما تخاف ياخي ما كان حـ يسوي ليك حاجة.!

اغتظت كثيراً من عبارته الأخيرة، والحقيقة أنه وغدٌ محظوظ في هذه اللحظة بالذات، لأنه ليس بقربي بندقية آلية من طراز (كلاشنكوف)، لأنني كنتُ سأستخدمها في غرض واحد أعرفه جيّداً.!

(3)

صارحتُ صاحبي بأنني لن أزوره بعد اليوم بتاتاً، حتى يتخلّص من هذا الكلب، وقد اتضح لي سبباً سلبياً أخر يمكنك أن تضيفه إلى مساوئ الكلاب، وهي تبعد عنك الأصدقاء والجيران وتؤذي عابري السبيل، وتسبب لهم الرعب، حتى أنني أذكر أن جاراً لنا كان يملك أكثر من ستة كلاب شرسة وضخمة، صادف أن جدّي المرحوم مرّ بشارعه، هاجمته الكلاب وطرحته أرضاً، وعضضته في مواضع كثيرة، ولو لم يأتِ أحد المارة بذلك الطريق لينقذه مصادفة، لكانت قد فتكت به، في المستشفي قال لنا صاحب الكلاب في عبقرية يُحسد عليها:

- كلابي ما مصابة بالسعر.!

يا سلام، وماذا عن الإصابات التي سببتها كلابه في جسد جدّي؟ ماذا عن أثر الأنياب والمخالب الذي لن يمحوه الزمن؟ وماذا عن الإصابة النفسية التي سبّبت له شرخاً كبيراً في دواخله؟ أليس هذا مرعباً مثله ومثل السَعَر؟ وأنني أحتار، أنّ في القانون مادة تدين الذين يزعجون جيرانهم بالصوت العالي، ولكن لم أجد مادة تدين من يرعبون جيرانهم بكلابهم، إذا كان لديك –عزيزي المواطن- مالاً أو متاعاً تخاف عليه، من الأفضل أن تذهب به إلى البنك أو اخترع له أيّ بديل حماية آخر، بدلاً من أن توكل لحراسته كلباً يكون سبباً في ترويع الناس وصبّ اللعنات عليك من كلّ جانب.!


الجهود الحثيثة في سماية بت نفيسة..!!

(1)

بعد أن بدأت بطنها بـ التكوّر مُعلنة قدوم ضيف جديد؛ كانت كل الدعوات التي تسمعها (نفيسة) على صيغة: (ربنا يرزقك بي بت)، نعم .. كانت هي الأمنية التي تترقبها (نفيسة) بعد أن رُزقت بـ أربعة أولاد، حتى أن زوجها (إبراهيم) صار يتمنى البنت بعد أن اكتفى من الأولاد، وأولاده الأربعة هم كذلك صاروا يتمنون أن يُحظوا بـ أخت، أخوات نفيسة كذلك صِرن يمطرنها بالدعوات أن ترزق بـ بنت، وجميع نساء الحلة يدعون لـ نفيسة بـ البنت، وهكذا صارت البنت هي مطلب الجميع، حتى أن من كانت ينقصها الموضوع ومن لم تكن؛ صارت تعدّ الأيام والشهور وتترقب البنت.!

(2)

في ذلك اليوم، انطلقت الزغاريد من مستشفى المدينة المجاورة، وانهالت التهاني على (نفيسة)، التي لم تخيّب الظنون وأنجبت بنت، الكُل لم تسعه الفرحة، فقد تحققت الأمنية أخيراً، وصارت البنت هي محور كل حديث، فـ هذه تقول أن عيونها تشبه عيون أمها نفيسة، وأخرى تضيف أن أنفها هو ذاته أنف إبراهيم، وثالثة تؤكد أن أذنها تشبه أذن حبوبتها.!

بعد كل ما سبق من تعليقات انتقل الجميع للسؤال المهم وهو:

- ما هو الاسم الذي ستختاره (نفيسة) لـ ابنتها؟!

(3)

اقترب موعد السماية، أحضر إبراهيم كبشين أقرنين أملحين ليذبحهما في سماية بنته التي لم يختاروا لها اسمها حتى الآن، وفي جلسة جمعت بين إبراهيم وزوجته دار هذا الحوار:

- أها يا نفيسة .. ما اخترتي اسم لـ البنيّة؟!

صمتت نفيسة قليلاً ثم قالت:

- دايرة أسميها (وجدان).!

هتف بها إبراهيم في استهجان:

- وجدان؟!!

ثم أضاف زوجها:

- الحقيقة يعني .. أنا كنت داير أسميها على أمي!!

صرخت نفيسة في دهشة:

- داير تسمى البت (كلتومة)؟!!

- أيوه .. اسم (كلتومة) مالو .. يعني ممكن تكون (أم كلثوم) .. و(كلتومة) يكون اسم دلع ساي!

مصّت نفيسة بعض العرديب ثم قالت بـ استياء:

- يعني اسم كلتومة ده ما شايفو قديم شوية؟!

- لا قديم ولا حاجة .. وانا من دربي ماشي على امي .. أبشرها وأقول ليها البت سميناها عليك (كلتومة).!

(4)

الغريب في الأمر أن (حاجة كلتومة) والدة إبراهيم رفضت أن تُسمَى البنت على اسمها، وكان السبب غريباً بعض الشيء.!!

- ليه يا حاجة ما دايرة البت تشيل اسمك؟!

- والله يا ولدي بتك دي من قبل ما يلدوها أنا حجزت ليها اسمها!

- والله ؟!.. الله يديك العافية يا حاجة .. أها دايرة تسميها شنو؟!

- دايرة أسميها (التاية) على اسم أمي الله يرحمها.!

حملق إبراهيم في والدته بـ اندهاش ثم قال:

- التاية؟!!

وأضاف بذات الذهول:

- يعني ما شايفة الاسم ده قديم شوية؟!

هزت والدته رأسها بعناد:

- لا .. لا قديم ولا حاجة .. من دربك ده طوالي تسميها (التاية)!

ثم فجأة انفجرت في بكاء حار وهي تغمغم:

- يا حليلك يا أمي .. التاية .. الضواية!!

هدأها ابنها وهو يقول لها:

- خلاص .. خلاص يا حاجة .. نسميها (التاية)!!

خرج إبراهيم وهو يطنطن:

- البت أمها قالت يسموها (وجدان) .. وأنا قلت يسموها (كلتومة) .. وأمي قالت يسموها (التاية) .. دي يحلوها كيف؟ .. كدي نمشي على ابوي في الدكان .. يمكن يكون عندو راي تاني!!

(5)

جلس إبراهيم مع والده وحكي له الأسماء المقترحة لـ ابنته، إلا أن والده كان له رأياً مخالفاً.!

- أمك دي جنّت وللا شنو؟… تسمي البت (التاية) ؟!

هتف (عبد الجبار) والد إبراهيم بـ العبارة أعلاه بـ قوة!

أجابه ابنه في إحباط:

- نسوي شنو يا حاج .. قلت أمشّي كلامها عشان أرضيها .. زعل الوالدة صعب.!

- ده كلام فارغ .. البت دي أنا اخترت اسمها من قبل ما يلدوها زاتو!!

تهللت أسارير إبراهيم ولاح له بارق أمل في تغيير اسم (التاية) إلى اسم أخفّ وطأة، وهتف بـ سعادة:

- صحي يا حاج .. الله يديك العافية .. اخترت ياتو اسم؟!

حمحم حاج عبد الجبار ثم قال:

- نسميها (الليمونة) .. على اسم أمي!!

(6)

كاد إبراهيم أن يُصاب بـ اكتئاب، فـ صغيرته حتى الآن لديها أربعة أسماء (كلتومة) .. (التاية) .. (الليمونة).. (وجدان).. ومن اقترحوا هذه الأسماء لا يستطيع أن يكسر لهم رأيا، وهذه في رأيه ورطة كبيرة، فكّر في رأي آخر، فـ هو حتى الآن لم يشاور أخوانها الأربعة، فـهم لهم كلمتهم أيضاً.!

بعد أن اجتمع بهم، وجدهم الأربعة قد اتفقوا على اسم واحد.!

- جميلة؟!

نطق بها الابن الأكبر، وهو يخبر والده بـ الاسم الذي اتفقوا عليه، ذهب عنهم والدهم وهو يشعر أن الموقف تأزم أكثر، ماذا سيسميها الآن، فـ الأولاد قد زادوا الأمر عِلة، وفكر في أن يجتمع بـ الجميع، وبعدها سيقرر ما يتفقون عليه.!

(7)

في جلسة عائلية ضمّت إبراهيم ووالديه، وزوجته وأبناءه الأربعة، اجتمعوا ليناقشوا أي اسم سيختارونه لهذه البنت.؟!

نطق الجميع بـ صوت واحد:

- التاية.!

- الليمونة.!

- وجدان.!

- جميلة.!

وأضاف إبراهيم:

- كلتومة!

ثم قال:

- كِده ما حـ نصل لأي قرار!

وبعد نقاش دام لـ خمس ساعات، اتفق القوم على رأي غريب، وهو أن أي واحد سينادي البنت بـ الاسم الذي يروق له.!

(8)

مضت سبعة أعوام والبنت والدها يناديها بـ (كلتومة)، ووالدتها تناديها بـ (وجدان)، وحبوبتها بـ (التاية)، وجدها بـ (الليمونة)، أما الأبناء الأربعة فينادونها بـ (جميلة).! تأقلمت البنت على هذا الوضع الغريب، واستطاعت أن تستوعب الأسماء الخمسة، إلا أن الحال من المستحيل أن يدوم هكذا، فقد حان وقت إدخالها المدرسة، وبما أن القرية ليس بها نظام (رياض الأطفال)، وشهادات الميلاد عادة ما تُستخرج لـ الطفل في أول عام له في المدرسة؛ لذا فقد طالبت مديرة المدرسة بـ اسم موحد للبنت حتى يمكن تسجيله في شهادة الميلاد، وبعد أن تشاور الجميع اتفقوا ولـ أول مرة على القرار الصحيح، وهو أن يستشيروا صاحبة الاسم نفسها، فـ بسنواتها السبع تستطيع أن تختار اسمها الذي يحلو لها.!

فكّرت البنت، وكان الكل يغمز لها أن تختار تسميته، وحتى تخرج من هذا المأزق، أتت بفكرة محايدة، وهي أن تختار الحرف الأول من كل اسم، وما سيأتي سيكون اسمها!.

وافق الجميع على رأيها، وتولى أحد الأولاد عملية رص الأسماء عشوائياً، فـ كانت كالآتي:

- كلتومة!

- التاية!

- الليمونة!

- وجدان!

- جميلة!

وبعد أن تم تجميع الحرف الأول من كل اسم مع استبعاد ألف لام التعريف صار الاسم الجديد هو (كتلوج) .. نعم وافقت البنت على هذا الاسم، وتم تسجيلها في المدرسة بـ الاسم الجديد: (كتلوج إبراهيم عبد الجبار).!

تأثير الأطفال على التلفزيون .. والريموت كنترول!!

(1)

الأطفال، قبل أن تنمو لهم تلك الأسنان الأمامية، قبل أن يتعلّموا الكلام والمشي و(اللماضة)، يكونون في منتهى الوداعة والجمال، ولكن ما إن يصلوا هذه المراحل أعلاه، ويتدرجون في السنوات ليصلوا إلى السادسة والسابعة، حتى يبدءون في التحول إلى كائنات مزعجة وأحياناً (قليلة الأدب)، وستتأكد من كلامي عندما ترى بعينك طفلاً يمعط شعر أخته الصغيرة، أو يصرخ بالقرب منك عندما تكون مُنهمكاً ومستمتعاً بقراءة كتاب عن (تاريخ زراعة الفِجل في اندونيسيا) –على سبيل المثال يا شيخ- أو تجده حاملاً مسمار طويل وفي عينيه شرارة الاكتشاف، مُتجهاً بثقة نحو أقرب فيشة كهرباء، ليدخل فيها المسمار بالطبع، حتى تضطّر أحياناً أن تستخدم معهم تطبيق نهج مدرسة جحا التربوية، فـ جحا له منطق عبقري في هذا الشأن، عندما أراد إرسال ابنه بكيس نقود ليسلّمه لشخص آخر، إذ صفع ابنه صفعة مُدويّة لينذره من ضياع كيس النقود، وكانت حجته في ذلك انه لن يجني شيئا من صفع الطفل بعد إضاعة الكيس، أما الآن فان الصفعة ستؤلمه إلى حد انه سيبذل جهداً كافياً ومُقدّراً لكي يتلافى صفعة أخرى .. والله نِعم المنطق يا شيخ جحا.!

(2)

مرّ عليّ في أحد أعداد (حكايات)، في صفحة القضايا المنسية خبر أطفال قبضهم البوليس وكانوا يتسلّون بقطع آذان وذيول أغنام الحي التي كانت ترعي وتُمارس هوايتها في حكّ بطونها بـ الجدران في أمان الله، وقد اشتكاهم أحد المواطنين وهو يقود خمسة أغنام من الضأن المقطوعة الذيول وواحدة من الماعز مقطوعة الضرع، وقد كان هذا الحادث في 30/10/1957م ونشرته صحيفة الرأي العام آنذاك.

طفل يستمتع بقطع آذان الأغنام، مثل هذا لا شكّ أنه مشروع سفّاح أو زعيم عصابة المافيا على الأقلّ.!

أما الأطفال الذي يتسلّون بخنق القطط، فهؤلاء من الكثرة بحيث لا يمكن حصرهم، ومعظم الأطفال إذا وقعت قطّة صغيرة في يده، سيمثّل بها شرّ تمثيل، وأذكر ذات مرّة رأيتُ مجموعة من الصغار قد قبضوا على فأر، وصنعوا (كارو) صغيرة ذات عجلات وبها حمولة ثقيلة، وربطوها على ظهر الفأر، وصاروا يجلدونه جلداً مُبرّحاً بسوط صغير حتى كاد أن يستغيث، فـ أدموا مؤخرته النحيلة، وكانوا يحثونه على الجري بأساليب تعذيبية لم يسمع بها أهل غوانتنامو بعد، هذا الفأر التعيس لو كان يدري ما المحاورة اشتكى، ولكان لو علم الكلام لـ لعن اليوم الذي أوقعه في أيدي هؤلاء المساخيط.!

(3)

بالتأكيد سيكون قدْ مرّ عليك كثير من أصناف هؤلاء الأطفال، ممّن يستمتعون بجذب ذيل القط، وتكسير الكبابي والصحون والقذف بـ الأحجار، وشتم الضيوف وعابري السبيل والعاملين عليها، حتى تظن أحياناً أنه لا توجد طريقة لتهذيبهم سوى ربطهم في ساري سفينة في قلب المحيط الهندي، ثم نسف هذه السفينة بقنبلة نووية من على البعد.!

عموماً هذه مرحلة يمر بها مُعظم الأطفال، وبعدها يستوون على سواء السبيل، فـ من النادر هذه الأيام أن تجد طفلاً لا يدخل المسمار في فيشة الكهرباء، ولا يصرخ بدون سبب.!

(4)

سرحتُ مع الأطفال الذين كان التمثيل بالأغنام وتكسير الأواني من هواياتهم المُفضلة، وقد كنتُ أريد أن أتحدث عن تأثير الأطفال على التلفزيون والريموت كنترول، بالطبع هنالك من يقول لي: لماذا لا تكتب عن تأثير التلفزيون على الأطفال؟ ولكن يا عزيزي هذا الموضوع قتلوه بحثاً، وفي فترة الثمانينات والتسعينات وحتى الآن، أغلب الكُتّاب شغلهم الشاغل هو تأثير التلفزيون على الأطفال، فـ أنا لا أريد إعادة اكتشاف الحديد، دعونا مع تأثير الأطفال على التلفزيون.!

إذا لاحظت ستجد أن للأطفال تأثيراً كاسحاً وفتّاكاً وأحياناً مُدمّراً على التلفزيون وعلى الريموت كنترول بشكل خاص، أولاً تجد أن التلفزيون يعمل في اليوم عدد ساعات أكثر من التي وضعها صانعوه في الكتلوج، فـ من النادر أن تجد بيت به أطفال وفي نفس الوقت به تلفزيون لا يعمل أكثر من أربعة عشر ساعة في اليوم، إلاّ إذا كان في هذا البيت أم أو أب من النوع الذي يضرب أولاً ثم يسمع الأعذار لاحقاً.!

تجد أن الطفل يصحو من نومه أحياناً في السادسة صباحاً، بـ جفنين منتفخين، شعر منكوش، ونظرة معادية كارهة للنور، يمسك بـ الريموت وهو ما بين نائمٍ وصاح، وبين شفتيه يلوك ذلك الطعام الغامض الذي يلوكه النيام جميعاً، ولم يكتشف العلماء سرّه حتى الآن، ثم يفتح واحدة من قنوات الأطفال التي بها وحوش آلية تخرج أشعة الليزر القاتلة من عيونها، بعد قليل يصحو أخوه الأكبر، بجفنين منتفخين وشعر منكوش ونظرة معادية كارهة للنور، ولا تختلف كثيراً عن نظرة سالفه، ويقتلع الريموت من يده أخيه الأصغر ليشاهد حلقات توم وجيري، وبعد عراك عنيف، ينفتح الريموت وتظهر أحشائه ظاهرة للعيان، وتطير منه عدة أزرار في عدة اتجاهات، ومن هنا يأتي تأثير الأطفال على الريموت كنترول، حتى أنني أتمنى أن يخترع العلماء ذلك الريموت الذي لا ينكسر على يد أطفال صغار بعد أول معركة.!

(5)

بعد أن يصير الريموت سلاح غير ذي نفع وفائدة، يتجه الطفلان نحو استخدام السفنجات والشباشب، يقذف الطفل الصغير أخاه الأكبر بشبشب أبيه الأخضر الثقيل، فيخطئه الشبشب ويصدم التلفزيون صدمة تزلزل أسلاكه من الأعماق يا حبيبي يا غالي، وإذا لم يكن التلفزيون صناعة يابانية أصلية، فلن يعمل بعدها بتاتاً، وسـ تفكّر بعدها في جلب تلفزيون آخر جديد، حتى تتمنى أنت -عزيزي الأب- لو كان الشبشب قد صادف الصغير، فـ إنه لن يرديه على الأقل.!

ولكي أطمئنك أيها الأب الكريم، أنه من النادر هذه الأيام أن تجد طفلاً يقذف أخيه الأكبر بشبشب أبيه الأخضر ولا يخطئه فيصيب التلفزيون، وإذا كان لديك طفلاً من هذا النوع، فأنت بالتأكيد من سعيدي الحظ القلائل في هذا العالم.!

حكاية رقم من خمس خانات فقط.!!

اقترح عليّ بعض القُراء الكرام أن أغيّر اسم (مذكرات زول ساكت) إلى (مذكرّات زول ساي)، وذلك لعدّة أسباب اقتنعتُ بها، وطلوعاً لرغبة القرّاء الأفاضل تم تغيير الاسم، فـ القارئ كالزبون تماماً، له حق، وطلباته مُستجابة، حتى وإن اقترح تغيير الاسم إلى (مذكرات زول أحمق) سنلبّي له طلبه.

على العموم، سيكون اسم هذا النوع من المقالات الشخصية هو (مذكرات زول ساي) .. ومن الأفضل بعد هذا أن ندخل في موضوعنا الأساسي الذي أتينا من أجله.

(1)

من المعروف أن البلاد تتقدم بتقدّم التعليم الجامعي، الذي خلاصته البحوث العلمية وإجراء التجارب العلمية، التي ثمرتها أن يأتي الطالب بشيء جديد يفيد البلاد والعباد، ولكن الذي يحدث الآن في معظم جامعاتنا -إلاّ ما رحم ربي- هو العكس تماماً، تجد أن الأرفف تكتظّ بالدراسات والبحوث من كل لون، ولكن لا أثر عملياً لها في الحياة الدنيا وبعد الممات، وبعض الأسباب يُعزى إلى أنّ البحوث نفسها –أحياناً- يكتبها الطالب من أجل أن يُخرج نفسه من هذه الورطة ليس إلاّ، وقد يطبخ من عنده الكثير من المعادلات والحقائق، وهذا ما اكتشفته عندما تمّ تكليفي ببحث التخرّج، اخترتُ موضوعاً عن الزراعة، بالضبط عن توقّع الإنتاج الزراعي لـ إحدى الولايات بعد عدة سنوات، بناء على إنتاج المواسم السابقة، ولكن وقف في طريقي رقم واحد من خمس خانات، كانت تعتمد عليه كلّ معادلاتي، كان الرقم المَعنِي هو إنتاج هذه الولاية من الذرة قبل سنوات قليلة، ذهبتُ للكثير من المنظمات والمؤسسات الزراعية، ولم أجد الرقم، أربعة أشهر بالتمام قضيتها بحثاً عن هذا الرقم، وكنتُ أسمع من الزملاء عبارات من نوع:

- أها يا زول .. ما جمعت لسه؟

أو:

- رقمك ده أحسن تنجرو من راسك ده وتريح نفسك!

بعض الزملاء جزاهم الله عنّا كل خير تبرّعوا بأن يؤلّفوا لي الرقم، وصرتُ أسمع منهم اقتراحات مثل:

- رأيك شنو في الرقم 34878 .. وللا أحسن أديك رقم يقبل القسمة على 12 بدون باقي؟

(2)

كلّ هذا وأنا لا زلتُ مُصرّاً على الرقم، اتصلتُ بالرجل الذي من المفترض أن يكون حافظاً هذا الرقم كـ اسم أبيه، وخيّب ظني بأنه لا يعرفه، وفي سبيل هذا الرقم الأحمق، سرتُ مشاويراً إذا مددتها قد توصلني حتى (كوكبة الدجاجة)، أو حتى حدود (مجرة درب التبانة)، ركبتُ مواصلات ثمن تذاكرها يكاد يكفي لتكاليف زواج جماعي لقرية كاملة، قلّبتُ دفاتراً وأوراقاً لم يمسسها بشر منذ خمسين عاماً، وبعد كلّ هذا لم أجد الرقم!

زميلتي التي أوقعها الله -في شرّ أعمالها- معي في البحث، كادت أن تتحول مني وتذهب إلى زميل آخر، من النوع الذي لا يقف في طريقه رقم من خمس خانات، ولكن صبّرها الزملاء بـ أن تحتسب وتكمل بقية المشوار، وأظنها من الغيظ كانت تفكر -بعد الانتهاء من البحث- أن تتخلص مني ولكن بدون دماء، مُشرفي في البحث نظراته كانت تقول لي:

- إذا لم تجد الرقم حاول أن تتصرف يا بُني حتى لا تعطل مشوارك وتعطلنا معاك.!

وأنا لا زلتُ محتاراً، كيف لولاية بأكملها لا تعرف حجم إنتاج محصولها الرئيسي بـ الطنّ قبل سنوات تُعدّ على أصابع اليد الواحدة، في حين أن بعض الدول الأخرى تعرف عدد عيدان الكبريت التي صدّرتها قبل نصف قرن من الزمان.

بعد كلّ هذا قنعتُ من كل خير في هذا الرقم المنحوس، الذي دخل في حياتي كـ غراب البين، حتى أن حياتي انقسمت إلى قسمين: ما قبل الرقم، وما بعد الرقم.!

قبل الرقم كانت حياتي جميلة وتسير هادئة كالنسيم، أما بعد الرقم فصارت تعيسة، وكاد هذا الرقم أن يطيح بمستقبلي..!

(3)

وبما أن علم الإحصاء التطبيقي به الكثير من الأدوات التي من المكن أن تُحلّني من هذه الورطة؛ لذا قُمتُ بتقدير الرقم عبر سلسلة معقدة من المعادلات الرياضية، فأتي رقم تقريبي جميل المنظر، وذو طلعة بهيّة، وبه هامش خطأ تم تقديره قبل الرقم نفسه، وبعدها ارتحتُ أنا وارتاح القوم، وانقشعت السماء، وتنفّس الجميع الصعداء، المُشرف انفرطت أساريره وهو يقول لي بما معناه:

- طيّب ما كان تعمل كده من زمان.!

زميلتي كادت أن تذبح كبشاً أقرناً أملحاً وتقيم الولائم بمناسبة تقدير الرقم، تلقيتُ التهاني والمباركات من الزملاء بالحصول على الرقم، وصار الرقم مضرب مثل في الكليّة، إذا أراد أحدهم أن يشتري بطيخة ولم يجدها يقولون له:

- أصلو هي بقت رقم أسامة!

إذا أرادوا أن يصفوا شخصاً ما بالحماقة يقولون:

- والله روحو طويلة سلبة .. أسامة بس!

(3)

هذا الرقم كشف لي أن البحوث عندنا تسير بالبركة، وأن (مشروع التخرّج) من المفترض أن يتم تسميته بـ(مشروع التخارج)، لأن نسبة الصحة في كثير من مشاريع التخرّج أقل من نسبة نجاح فأر صغير في الهرب من عشرة قطط في غرفة مغلقة ليس بها جُحر، وأن بعض هذه البحوث منقول بالنص من بحوث سابقة أو من الإنترنت.!

لا أنكر أنه يوجد الكثير من الطّلاب المُجتهدين والباحثين والمخترعين في جامعاتنا، همّهم الأكبر أن يخرجوا بجديد لهذا العالم، وحُلمهم أن يخرج مشروعهم إلى النور، وأن يكون ثمرته جهاز أو منتج مُلصقٌ عليه عبارة (صُنع في السودان)، وهؤلاء لا ينقصهم سوى التمويل والإعلام الكافي، ورقماً كـ رقمي هذا من الممكن أن يسافروا من أجله حتى الصين، إذا كان هنالك ثمة احتمال في وجوده هناك.!

يا ليت كل الطلاّب مثل هؤلاء، وأتمنى أن يأتي ذلك اليوم الذي يقود فيه بحث التخرج -عند كل طالب- إلى تجربة علمية ثُم إلى اختراع يفيد البلاد والعباد، أتمنى ذلك، وليس بيدي الآن سوى التمني.!

ونسة شبابية تحت شعار: كُنْ أغبَشاً..!!


(1)

الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، كان يتصفح إحدى المجلات الخفيفة، فوجد فيها مسابقة نظّمتها المجلة لأكثر شاب له عينان جريئتان! لقد كانت الصفحة تعجّ بالأوغاد الذين يسبّلون عيونهم في هيام، فما كان من الرئيس إلا وأن أمر قوات الأمن بإحضار كل هؤلاء الزناديق، وحلاقة شعرهم صلعة، وتجنيدهم ثم إرسالهم إلى الجبهة بدون نقاش.!

الذي ذكّرني هذه القصة هو أن بعض الشباب -من بني جلدتنا- هذه الأيام، صاروا يفعلون بشعورهم ومظهرهم أفاعيل عجيبة، وبعضهم كسّر تلك القواعد القديمة، التي من المعروف ومنذ قديم الزمان أن الولد من المفترض أن يكون خشناً، وأن النعومة للفتيات فقط، وهذه كانت ثوابت لا يناقش فيها أحد.!

أما في هذا العصر، عصر العولمة والانفتاح الحُر، كثرت الأشياء المشتركة بين البنين والبنات، بل وأنّ هنالك أشياء كانت مقتصرة على البنات فقط، إلاّ أن الأولاد بدءوا يزاحمون فيها الفتيات، وأهونها استعمال الكريمات، نعم هنالك بعض الشباب يتمسّحون، وتجد في دولاب أحدهم مجموعة لا بأس بها من مستحضرات التجميل، وأذكر أنني ذات يوم دعتني الظروف للمبيت مع أحد الزملاء، أشرقت شمس الصباح، وقبل أن نخرج للذهاب إلى الجامعة أحضر لي ما يقارب الخمسة علب، مختلفة الألوان والأحجام، أمسكت أوّل واحدة وقلّبتها بين يدي بتعجّب وقلت له:

- ده شنو يا أخوي؟

- ده كريم مرّطب للجسم!

- سبحان الله.!

تناولت علبة أخرى عريضة المنكبين وقلت له:

- أها ودي تطلع شنو؟

- ده مُثبّت شعر.!

- والله ما شاء الله .. أها والصُباع ده شنو ما أظنو معجون أسنان؟!

ضحك متعجّباً من جهلي وحماقتي وأجاب:

- ده كريم مخصص لشقوق الأرجل.. وإنت جاي من وين يا اخوي ما بتعرف الحاجات دي؟

أمرته أن يرفع هذه الخزعبلات من أمامي، وقلتُ له أنني من سلالة لا تتمسّح بتاتاً، أما شقوق الرجلين دي والله مرات بنفاخر بيها عديل، وحكيته له قصة ود جيراننا عندما كنّا صغاراً، قبضه والده بعد رجوعه من المدرسة وفي وجهه لمعة زيت جعلت وجهه صقيلا لامعاً، صفعه الأب على خدّه صفعة مدويّة وقال له بغضب:

- كمان بقيت تتمسّح زي البنات يا ولد يا خايب؟

وبما أنه كان من نوع الآباء الذي يضرب أولاً ثم يسمع الأعذار فيما بعد، فقد عرف لاحقاً أن ولده بعد أن أكل طعمية من (حاجة صفيّة) الفرّاشة بالمدرسة، لم يجد مكاناً يمسح فيه زيت الطعمية سوى وجهه الأغبش.!

(2)

ومن المظاهر الغريبة التي تراها عند بعض الشباب هذه الأيام ظاهرة (برم الشعر) وفلفلته، والله أنا الذي أعيش وسطهم حتى الآن أحتار في تلك الطريقة المعقدة التي يبرم بها أي ولد صوف رأسه ويجعله مثل الياي، ولكن حكى لي فاعل خير أنه يعرف طالب جامعي يستيقظ من آذان الفجر الأول، ويقوم ببرم أي خمسة صوفات مع بعضهن، ومع سطوع الشمس يكون قد انتهي من برم كل شعره، وهو يقوم بهذه الإنجازات كل يوم، احترتُ في هذا الفتى، فهذه العملية من الممكن بسهولة اعتبارها ضمن أساليب التعذيب الحديثة.!

نعم من حق أي شاب أن يعترض ويقول:

- أنه شعري وأنا حرّ فيه، على كيفي أبرّم تفّتي أو لا أبرّمها، على كيفي، أصبّغها أزعمطها، على كيفي.!

ولكن السؤال هو: لماذا؟ هل لـ لفت الأنظار؟ إذا كان هذا مراده، فالأفضل أن يلفت الأنظار إليه بشيء جميل، مِثلَ أن يكون مُبدعاً في مجال ما، أن يكون مُجتهداً في دراسته، أن يكون مُثقّفاً، أن يخترع شيئاً جديداً، هكذا يكون قد لفت إليه الأنظار بشيء مفيد، إن كان هذا مقصده، ولكن أن يأتي بمظهر جديد، لم تستطعه الأوائل، فهذا سيجلب له نظرات السخط والاشمئزاز أكثر من الإعجاب، وهو بهذا خسران أكثر من كونه رابحاً.!

ومع برم الشعر أحياناً تجد نفس الشاب يلبس ذلك البنطلون (الناصل)، الذي أتمنى أن يمتد بي العُمر حتى أعرف التقنية التي يستخدمها لابسه، والتي تجعله لا يقع على الأرض، فثبات بنطلون بهذه الطريقة يعتبر من الظواهر الكونية النادرة، وإذا كان لابسه فعل هذا ليلفت إليه الأنظار، أعتقد أنه قد نجح، ولكنها أنظار استهجان وربما لعنات مصبوبة على كل شباب هذه الأيام.!

(3)

أما في الخمس سنوات الأخيرة فقد ظهر أولاد شباب -ما شاء الله عليهم- يشربون (المديدة) نهاراً جهاراً، وأمام جميع الخلائق، وأنا الأحمق المتخلّف، كنتُ أظنّ أن شرب (المديدة) شيء مخصص للنساء النفساوات فقط، حتى ألحّ علي أحد الأصدقاء ودعاني لشرب (كورة مديدة) في محل ما، تحت إصراره ذهبتُ معه خجِلاً، إذ كيف يمكن لرجل عاقل أن يشرب (مديدة)؟ وكمان في السوق، المهم، أنني توكلّتُ وشربتها، بل واستمتعتُ بمضغ تلك الأشياء التي تزخر بها (المديدة)، والتي لم أعرف حتى الآن إن كانت زبيباً أم ضفادع صغيرة؟.

ألم أقل لك أن هنالك بعض الأشياء صارت مشتركة بين الرجال والنساء، ومنها (المديدة) التي من المحتمل أن يصير شرابها في المستقبل نوعاً من الثقافة.!

(4)

لا أريد أن ألعب دور غراب البين، ولكن أعتقد أنه من الأفضل أن يُحافظ الشاب على خشونته، وألا يحاول أن يكثر من الأشياء المشتركة بين البنين والبنات، حتى وإن كنت -عزيزي الشاب- تتمسّح بحسن نية، لا تدع الأمر يصبح ظاهرة، هنالك الكثير من البلاوي الملقاة على عاتقنا –نحن الشباب- رجاء لا تزيدها واحدة، لماذا تريد أن تكون ناعماً؟ هل لبنات حوّاء دخل في الموضوع؟ إن كان هكذا فـ الدراسات أثبتت أن البنات يملن إلى الأولاد الخشنين.!

نعم .. الله جميل يحبّ الجمال، ولكن لا يحبّ التشبّه بالنساء، ليس هنالك داعٍ لأن تلبس ملابساً من النوع الذي تجعل من صاحبها وغداً بكلّ ما تحمله الكلمة، لا تحاول أن تفصل بين الظاهر والباطن، لا تقلْ أن اللبس لا علاقة له بالشخصية، فشخصية الإنسان تتأثر بلبسه، وسأعطيك عبارة سمعتها من الحكيم شيخنا، اعمل بها ولن تندم، وهي:

- (إذا صَلُح الظاهر، صَلُحَ الباطن).!