الثلاثاء، 12 يناير 2010

ثقافة (الدوزنة السرابية) و(اندياحات الغروب) .. إن شاء تطير.!!

(1)

منذُ وقتٍ طويل.. كنتُ أظنّ أنّ الثقافة هي حشد أكبر عدد من المعلومات العامة في دماغ المُثقف، وأن المُثقف هو الذي عندما تسأله عن مساحة دولة (كانوكان) يجيبك بها فوراً، كنتُ أعتقد أن الشخص المُثقف هو الذي يتحدث بكلام لا يفهمه إلاّ المثقفون، وأنّ البقية لم يصلوا لمرحلة فهم ما يقوله بعد، كنتُ أظنّ أن المُثقف هو ذلك الذي يكون حديثه على غرار:

- أن الدوزنة السرابية.. هي التي تتفق مع تيار الدهشة المتواطئ .. المتعانق مع الفجر البازغ عند حلول السرنديب.!

كنتُ كذلك أعتقد أن الكاتب المُثقف هو ذلك الذي يكتب كلاماً يُفهم بأكثر من عشرة ملايين معنى، مثلاً أفترض أن أحداً ما كتب هذه السطور:

- إن الشروق وإندياحات الغروب.. تأرجحت بين التدوزن تارة .. وبين الأحاسيس السرمدية .. المُكتشهبة المُتحنبلة التي مدت رأسها طويلاً.. حتى تقاطعت في الأفق الحلزوني مع ازدواجية الرؤية عند الذين لا يحضرون غيابهم.!

هذه الكلمات قد يقرأها أحد ما ويهتف بانبهار قائلاً:

- يا سلاااام .. والله الزول ده مليان ثقافة فُل .. (الذين لا يحضرون غيابهم) ديل أكيد يكونوا ناس عربية النفايات.!

وقد يقرأها آخر فيخلف رجله اليمين على أختها الشمال ويلوح بالصحيفة بثقة ويقول:

- طبعاً الكاتب ده من النوع الذي لن تفهم ما يقوله إلا إذا قرأت ما بين السطور .. (الشروق واندياحات الغروب) دي يكون قاصد بيها أكبر حزبين في البلد .. والتي مدت رأسها طويلاً دي تكون الأحزاب التانية .. و(الذين لا يحضرون غيابهم) ديل أكيد فلول المعارضة الذين احتموا بأعداء الإسلام.!

فـ ينبري له أحد الجالسين مقاطعاً بقوله:

- يا جماعة إنتو ما فهمتو الراجل ده قاصد شنو.. (اندياحات الغروب) دي يكون قاصد بيها أسعار السكر التي مدت رأسها طويلاً .. و(الذين لا يحضرون غيابهم) ديل أكيد تجار السكر الرفعوا السعر.. حتى كادت أن تنقطع أنفاس المواطن ذي الأحاسيس السرمدية.!

نعم .. كنتُ أعتقد جازماً أن المُثقف هو ما ورد أعلاه، وهو الذي عندما يكتب عبارة ما، فإنه يقصد بها ألف معنى، وعندما ينطق بكلمة، فإنها لابد من أن معناها يمكن أن ينوء بحمل بعير، وعندما تسأله عن وزن الفيل عندما يبلغ أربعين أسبوعاً في بطن أمه، سيجيبك بلا تردد، وعندما يسألونه عن عدد القطط التي تربيها خالة الرئيسي الموزمبيقي الأسبق، سيكون ملّماً بها ..وقد يحاضرك في هذا الشأن إن لزم الأمر.!

(2)

بعد عدد من السنوات.. اكتشفتُ أنني كم كنتُ أحمق وقصير النظر، عندما أضعتُ عددا من سنوات عمري في حفظ عواصم دول العالم .. وتواريخ المعارك .. وسير الشخصيات البارزة .. إلخ. نسيتها.. ولو بذلتُ نصف هذا المجهود في قراءة أمهات الكتب، لصرتُ من علماء البلاد.

عرفتُ أن الذي يشحن رأسه بالمعلومات فقط، إنما هو عبارة عن نسخة من موسوعة موضوعة على رفّ مكتبة يعلوها الغبار، وأن المعلومات العامة هي ليست مقياسا لمعرفة مدى ثقافة الفرد، وأن الذي يملأ ذاكرته بمعلومات كثيفة، ليس أكثر ثقافة من غيره.!

توصلتُ إلى أن منهج الدراسة الذي كان –ولا يزال- ذروة سنامه الحفظ .. والمنهج معظمه عبارة عن حفظ معلومات عامة.. لا يُخرج هذا المنهج طالباً مثقفاً، لأننا –كطلاب عِلم- وبعد ستة عشرة سنة من الدراسة وحفظ المقررات من الغلاف إلى الغلاف، وصولاتنا في مرحلة الأساس.. ومرورنا مرور الكرام بالثانوية، وحتى أناخت جمالنا بأبواب الجامعة .. تأكدنا تماماً من أننا تخرجنا طلاباً نصف مثقفين.. إن لم يكن رُبعهم، أننا بعد ستة عشر عاماً من تعلم السباحة، اكتشفنا أننا وصلنا مرحلة أن نتعلم فقط (عدم الغرق).!

(3)

حتى بعد أن ودّعنا فصول الدراسة، وخرجنا إلى المجتمع والحياة، وجدنا أن ثقافة الشاب تُقاس حسب معرفته بأغاني الفنانين القدامى، صارت هي التي يقيسون بها معرفة الفتى من جهله، قد تسمع بمن يقول:

- ياخي ده زول جاهل ساكت.. أغنية (طير يا طير .. ومد جناحينك طُوال) ما عارف شاعرها منو؟

وجدنا أننا بُعثنا في زمن.. من لا يعرف فيه اسم فنان ما من القدماء فهو جاهل، ومن لا يعرف التاريخ الذي حفروا فيه البحر فهو جهول، ومن لا يعرف مُلحن الأغنية الفلانية.. فهذا زنديق يستحق الشنق في ميدان عام.!

القنوات صارّت كذلك تجتهد في تكريس ثقافة المعلومات المكبسلة والمضغوطة، فترى قنوات تقيم مسابقات تريد أن تثبت للناس أنهم أغبياء وحمير، وأسئلتها من نوع:

- متى مات بيطلاس بن خانوس البيزنطي.؟!

- متى وُلد بسطام بن جشم بن الصايعة.؟!

- من هو مؤلف كتاب: الأساليب الأكيدة.. في ذبح الخراف العنيدة.؟!

وتجد المذيعة الحسناء تنظر بثقة إلى المُتسابقين الجُهلاء، الذين لا يعرفون هذه المعلومات البسيطة، التي يعرفها أي طفل خرج من الرحم لتوّه، في حين أنّ مقدمة البرنامج نفسها لو انتزعوا منها الورقة الأنيقة، فـ لن تعرف الإجابة أبداً، والسيد مُعدّ البرنامج نفسه لا يعرف الإجابة، فهو في الغالب أتى بها من أضابير الانترنت، أو من موسوعة ما.!

(4)

أظنّ -ظنّا من النوع الحميد الذي لا إثم فيه- أنه لا توجد فائدة ملموسة عندما يعرف الشباب الحالي مساحة أو عدد سكان دولة ما، فهذه معلومات موجودة في الإنترنت وفي أي دائرة معارف، وإنها نوع من ثقافة الكلمات المتقاطعة التي يصر الجميع على أنها الثقافة ولا شيء سواها، قليل من المعلومات العامة مفيد، ولكن لا أن تكون هي ركيزة ثقافة الشباب، فـ الثقافة هي أن تستخدم ما تعرفه مما قرأته وسمعته وشاهدته في تكوين مفهوم متكامل للمجتمع وللعالم من حولك، الثقافة هي كيفية التعامل بالمعارف التي اكتسبتها خلال رحلتك نحو المعرفة، الثقافة هي أن تعيد تدوير ما استوعبته وتخرجه للعالم في شكل جديد، وأفكار متجددة، الثقافة هي أن توصل رسالتك بأسلوب يفهمه الصغير قبل الكبير.!

(5)

أخيراً

ليس من الحكمة أن تعرف أن 2+2=4 .. ولكن الحكمة أن تعرف لماذا 2+2=4!.

0 التعليقات:

إرسال تعليق