الأحد، 10 يناير 2010

حكاية رقم من خمس خانات فقط.!!

اقترح عليّ بعض القُراء الكرام أن أغيّر اسم (مذكرات زول ساكت) إلى (مذكرّات زول ساي)، وذلك لعدّة أسباب اقتنعتُ بها، وطلوعاً لرغبة القرّاء الأفاضل تم تغيير الاسم، فـ القارئ كالزبون تماماً، له حق، وطلباته مُستجابة، حتى وإن اقترح تغيير الاسم إلى (مذكرات زول أحمق) سنلبّي له طلبه.

على العموم، سيكون اسم هذا النوع من المقالات الشخصية هو (مذكرات زول ساي) .. ومن الأفضل بعد هذا أن ندخل في موضوعنا الأساسي الذي أتينا من أجله.

(1)

من المعروف أن البلاد تتقدم بتقدّم التعليم الجامعي، الذي خلاصته البحوث العلمية وإجراء التجارب العلمية، التي ثمرتها أن يأتي الطالب بشيء جديد يفيد البلاد والعباد، ولكن الذي يحدث الآن في معظم جامعاتنا -إلاّ ما رحم ربي- هو العكس تماماً، تجد أن الأرفف تكتظّ بالدراسات والبحوث من كل لون، ولكن لا أثر عملياً لها في الحياة الدنيا وبعد الممات، وبعض الأسباب يُعزى إلى أنّ البحوث نفسها –أحياناً- يكتبها الطالب من أجل أن يُخرج نفسه من هذه الورطة ليس إلاّ، وقد يطبخ من عنده الكثير من المعادلات والحقائق، وهذا ما اكتشفته عندما تمّ تكليفي ببحث التخرّج، اخترتُ موضوعاً عن الزراعة، بالضبط عن توقّع الإنتاج الزراعي لـ إحدى الولايات بعد عدة سنوات، بناء على إنتاج المواسم السابقة، ولكن وقف في طريقي رقم واحد من خمس خانات، كانت تعتمد عليه كلّ معادلاتي، كان الرقم المَعنِي هو إنتاج هذه الولاية من الذرة قبل سنوات قليلة، ذهبتُ للكثير من المنظمات والمؤسسات الزراعية، ولم أجد الرقم، أربعة أشهر بالتمام قضيتها بحثاً عن هذا الرقم، وكنتُ أسمع من الزملاء عبارات من نوع:

- أها يا زول .. ما جمعت لسه؟

أو:

- رقمك ده أحسن تنجرو من راسك ده وتريح نفسك!

بعض الزملاء جزاهم الله عنّا كل خير تبرّعوا بأن يؤلّفوا لي الرقم، وصرتُ أسمع منهم اقتراحات مثل:

- رأيك شنو في الرقم 34878 .. وللا أحسن أديك رقم يقبل القسمة على 12 بدون باقي؟

(2)

كلّ هذا وأنا لا زلتُ مُصرّاً على الرقم، اتصلتُ بالرجل الذي من المفترض أن يكون حافظاً هذا الرقم كـ اسم أبيه، وخيّب ظني بأنه لا يعرفه، وفي سبيل هذا الرقم الأحمق، سرتُ مشاويراً إذا مددتها قد توصلني حتى (كوكبة الدجاجة)، أو حتى حدود (مجرة درب التبانة)، ركبتُ مواصلات ثمن تذاكرها يكاد يكفي لتكاليف زواج جماعي لقرية كاملة، قلّبتُ دفاتراً وأوراقاً لم يمسسها بشر منذ خمسين عاماً، وبعد كلّ هذا لم أجد الرقم!

زميلتي التي أوقعها الله -في شرّ أعمالها- معي في البحث، كادت أن تتحول مني وتذهب إلى زميل آخر، من النوع الذي لا يقف في طريقه رقم من خمس خانات، ولكن صبّرها الزملاء بـ أن تحتسب وتكمل بقية المشوار، وأظنها من الغيظ كانت تفكر -بعد الانتهاء من البحث- أن تتخلص مني ولكن بدون دماء، مُشرفي في البحث نظراته كانت تقول لي:

- إذا لم تجد الرقم حاول أن تتصرف يا بُني حتى لا تعطل مشوارك وتعطلنا معاك.!

وأنا لا زلتُ محتاراً، كيف لولاية بأكملها لا تعرف حجم إنتاج محصولها الرئيسي بـ الطنّ قبل سنوات تُعدّ على أصابع اليد الواحدة، في حين أن بعض الدول الأخرى تعرف عدد عيدان الكبريت التي صدّرتها قبل نصف قرن من الزمان.

بعد كلّ هذا قنعتُ من كل خير في هذا الرقم المنحوس، الذي دخل في حياتي كـ غراب البين، حتى أن حياتي انقسمت إلى قسمين: ما قبل الرقم، وما بعد الرقم.!

قبل الرقم كانت حياتي جميلة وتسير هادئة كالنسيم، أما بعد الرقم فصارت تعيسة، وكاد هذا الرقم أن يطيح بمستقبلي..!

(3)

وبما أن علم الإحصاء التطبيقي به الكثير من الأدوات التي من المكن أن تُحلّني من هذه الورطة؛ لذا قُمتُ بتقدير الرقم عبر سلسلة معقدة من المعادلات الرياضية، فأتي رقم تقريبي جميل المنظر، وذو طلعة بهيّة، وبه هامش خطأ تم تقديره قبل الرقم نفسه، وبعدها ارتحتُ أنا وارتاح القوم، وانقشعت السماء، وتنفّس الجميع الصعداء، المُشرف انفرطت أساريره وهو يقول لي بما معناه:

- طيّب ما كان تعمل كده من زمان.!

زميلتي كادت أن تذبح كبشاً أقرناً أملحاً وتقيم الولائم بمناسبة تقدير الرقم، تلقيتُ التهاني والمباركات من الزملاء بالحصول على الرقم، وصار الرقم مضرب مثل في الكليّة، إذا أراد أحدهم أن يشتري بطيخة ولم يجدها يقولون له:

- أصلو هي بقت رقم أسامة!

إذا أرادوا أن يصفوا شخصاً ما بالحماقة يقولون:

- والله روحو طويلة سلبة .. أسامة بس!

(3)

هذا الرقم كشف لي أن البحوث عندنا تسير بالبركة، وأن (مشروع التخرّج) من المفترض أن يتم تسميته بـ(مشروع التخارج)، لأن نسبة الصحة في كثير من مشاريع التخرّج أقل من نسبة نجاح فأر صغير في الهرب من عشرة قطط في غرفة مغلقة ليس بها جُحر، وأن بعض هذه البحوث منقول بالنص من بحوث سابقة أو من الإنترنت.!

لا أنكر أنه يوجد الكثير من الطّلاب المُجتهدين والباحثين والمخترعين في جامعاتنا، همّهم الأكبر أن يخرجوا بجديد لهذا العالم، وحُلمهم أن يخرج مشروعهم إلى النور، وأن يكون ثمرته جهاز أو منتج مُلصقٌ عليه عبارة (صُنع في السودان)، وهؤلاء لا ينقصهم سوى التمويل والإعلام الكافي، ورقماً كـ رقمي هذا من الممكن أن يسافروا من أجله حتى الصين، إذا كان هنالك ثمة احتمال في وجوده هناك.!

يا ليت كل الطلاّب مثل هؤلاء، وأتمنى أن يأتي ذلك اليوم الذي يقود فيه بحث التخرج -عند كل طالب- إلى تجربة علمية ثُم إلى اختراع يفيد البلاد والعباد، أتمنى ذلك، وليس بيدي الآن سوى التمني.!

0 التعليقات:

إرسال تعليق