الخميس، 7 يناير 2010

مدينة الخرطوم الفاضلة

(1)

بعد نيفٍ من الزمان ( والله يا جماعة ما معروف متين)، ستكون عاصمتنا الخرطوم مدينة فاضلة، وسكانها سيصبحون أناسٌ فضلاء، فـ في ذلك الزمان ستكون المتاجر مُشرعة الأبواب بلا تجار يبايعون، فقط تأتي وتشتري وتضع نقودك وتذهب، تحاسب نفسك بنفسك، فـ الثقة متوفرة، وكل الناس حسابهم ضمائرهم، سينعدم اللصوص والنشالون، محلات الذهب ستكون بلا أبواب ولا يحرسها أحد، تجد الناس في الشوارع جميعهم مبتسمون يلقون السلام، ويردون التحية بأحسن منها، لن تكون في البلاد مراكزاً للشرطة، ولا دوريات ولا كبسولات لبسط الأمن الشامل، لأنه لا حاجة لها، فـ الأمن مُوقرٌ في صدور الجميع، المواطنون كلهم شرفاء وضمائرهم بيضاء ونظيفة، كل فرد صادق مع نفسه والآخرين، إذا ارتكب سائق ما مخالفة مرورية، وهذا لا يحدث بتاتاً، ولكن إذا قدّر الله وحدث، سيذهب لـ وحده إلي مركز شرطة المرور، ويخبرهم بأنه يريد أن يسدد الإيصال الذي قطعه لنفسه، وقد يقولون له:

- تعال بعدين يا أخينا هسي ما فاضين ليك!

(2)

لن تكون هنالك محاكم ولا قضاة ولا محامون، لأنه لا توجد جرائم، ولا يوجد مجرمون، فـ إذا وجد مواطن ما رزمة بها مليار جنيه (بالجديد) ملقاة على قارعة الطريق لن يمد يده إليها، سيتخطاها حتى يأتي صاحبها لأخذها، وقد يكون هذا المليار في مكانه شهراً كاملاً لن يلمسه أحداً، وفي الشهر الثاني سيسلمه أحد المواطنين للشرطة، التي ستنشر بياناً بأنه وُجد مليار جنيه ملقياً على الطريق، وكل أوراقه من فئة المائة جنيه، على صاحبه أن يذهب ويستلمه من أي بنك!

في الخرطوم الفاضلة إذا دخلتَ مصلحة حكومية لتقضى لك أمراً ما، سيستقبلك الموظف بابتسامة عريضة، ووجه هاش، ويُسلم عليك سلام معرفة، ويسألك من الأهل وصحة الوالد، ويقدم لك مشروبا باردا، ثم يُجلسك على كرسي وثير، ثم يسألك بهدوء:

- أي خدمة يا أستاذ؟

قد تقول له أنك ترغب في استخراج ميراث جدك الخامس عشر .. سيرد عليك قائلاً باندهاش:

- يا سبحان الله !! .. ما كان تتعب نفسك وتجي لي موضوع بسيط زي ده .. كان تتصل بس، علي بالطلاق نجيبو ليك في البيت!

وبعد أن تنهي إجراءاتك، وتستلم إرثك من المرحوم، يقوم الموظف بتقديمك للخارج ويودعك بمودة ويطلب منك ألا تقطع زياراتك الميمونة عليه.!

(3)

بسبب الطيبة المبالغ فيها ستكون هنالك مشكلة في المواصلات، لأن المواطنين أصبحوا طيبون طيبة مبالغة، وكل منهم يريد أن يدفع قيمة التذكرة لكل الركاب، وقد تجد (أحدهم) واقفاً بالباب، وما إن تضع رجلك على سلم الحافلة حتى يحلف عليك هذا (الأحدهم) قائلاً :

- أسمع يا زول هووي .. كان داير تركب معانا هنا ده حرّرّم ما تدفع .. وللا شوف ليك حافلة تانية!

أما الكمساري الذي كان مشهوراً بـ لؤمه، إذا أراد أحد الطلاب أن يدفع القيمة كاملة، يقسم عليه بالطلاق المثلث أن يدفع رُبع القيمة فقط لأنه طالب مسكين ومفلس، وقد يدفع له من جيبه إذا رأى فيه قلة الحيلة ورقة الحال.!

في خطوط المواصلات القصيرة، السوق العربي – الصحافة، العربي – أم درمان، الشهداء – الشنقيطي، سيتفق جميع الكماسرة على رأي، وهو لابد أن يكرموا الرُكاب بـ كبابي الموية الباردة والعصائر ومديدة الدخن.!

(4)

قد تجد أحد المحسنين يحمل في يده رزمة من النقود، أو دفتر شيكات مُوقع على بياض، ويستوقفك في منتصف السوق ويسألك:

- عليك الله يا ولدي ما عارف ليك زول محتاج نديهو مليونين تلاتة يسند بيها حالو؟

سترد أنت قائلاً :

- أبداً والله ما عارف.!

ويستجديك قائلاً :

- طيب ما تشيلو إنت .. إمكن تكون محتاج لي مصاريف وكده!

سترد عليه بكل عزة نفس :

- معليش يا استاذ أنا ما بقدر استلمو منك .. احتمال يكون في واحد محتاج ليهو أكتر مني!.

أما إذا أردت أن تشتري سيارة مستعملة من الدلالة سيقول لك السمسار بكل وضوح:

- بصراحة يا أخينا العربية دي مشكلتا بس دايرة مكنة .. وشاسيه .. وصندوق .. وكراسي وتركب بيها الزلط.!

في الخرطوم الفاضلة بائع اللبن لا يزيد لبنه بالماء، بل يرمي فيه بعض حبات الزبيب، ومع كل رطل لبن تشتريه سيزيدك ثلاثة أرطال من عنده.!

في الحلة قد تجد زحمة ناس يتناقشون وعندما تسأل أحدهم عن الحاصل يجيبك:

- تصور حاج الفاضل ده عفص ليهو نملة كتلها!!

وقبل أن تندهش يقول لك آخر بحدة:

- تخيل يا ابن العم بقت تظهر في مجتمعنا جرائم زي دي .. بعد ده ما تستبعد واحد تاني يكتل ليهو بعوضة عديل!



0 التعليقات:

إرسال تعليق