أذكر ذات مرت ذهبنا - نحن ثُلة من القوم- لـ قرية قاحلة لأداء واجب، وبعد طعام الغداء طالبنا بماء لنغسل أيادينا، فأخبرونا أنهم لا يضيعون الماء في مثل هذه (الفارغات)، ولكن لأننا ضيوف سيجازفون بضياع (جك موية) بأكلمه لنغسل أيادينا، غسلناها وسط نظرات استهجانهم لحركات أولاد المدن الذين وصلت (حنكشتهم) إلى حد غسل الأيادي بعد الأكل، أما هُم وبعد انتهاء الوجبة مباشرة تركوا أياديهم حتى جففها الهواء ثم فركوها ليتساقط ما نشف من أثر (اللايوق) على الأرض، أي استخدموا تقنية (الغسيل الجاف).! أما المتحضرون منهم، لغسل أيديهم يستخدمون (موية البطيخ)، التي تستخدم كـ مياه لـ الشرب أيضاً، أما للغسيل فـ يكسرون أقرب بطيخة وينخرونها ويغسلون أيديهم بلا تبذير!! صحيح أنه في عُرفنا أن البطيخ ذاته يحتاج إلى أن تغسل يدك منه، لكن (نقول شنو المضطّر بركب الصعب).!
(2)
بـِ عقد مقارنة بسيطة تجد أن سُكان العاصمة وبعض المدن أحياناً يشتكون من مشاكل إذا سمع بها أهل القرى النائية؛ سيعتبرون أن هؤلاء الناس - كلهم كده- عبارة عن مجموعة من (الحناكيش) ليس إلاّ، إذا تأخرت المواصلات لدقائق تجد البعض يلعن سلسفيل المحلية، علماً بأن مشواراً مثل (أم درمان – السوق العربي) يمشيه أطفال القرى - سالفة الذكر- أكثر من مرة في اليوم، لأسباب قد يكون منها إحضار (سفنجة) أحدهم التي سقطت عندما كان يسرح بـ الماعز ليلاً .! وإذا قطعت المياه في العاصمة ليوم واحد لا غير؛ تجد أن كل السكان (يطنطنون) و(يمصون العرديب) جراء هذه الكارثة التي ألمت بهم، مع أن بعض المواطنين في الأرياف لم يسمعوا في حياتهم بكلمة ماسورة، أما إذا قطعت الكهرباء لنصف يوم فهذه من المصائب الجسام.!
(3)
صحيح أن سكان العاصمة وبعض المدن الأخرى ليس لهم بدائل أخرى مثل جلب الماء من النهر في حالة انقطاع الإمداد المائي، وطبيعة حياة العاصمة لا تحتمل انقطاع المياه ولا لساعة واحدة، والكهرباء كذلك لا أحد يتخيل العيش بدونها في بيوت أشبه بعلب كبريت مكبرة، ونسبة لطول المسافات وعدم اللياقة للمشي؛ لا يمكن أن يجازف مواطن ما بـ السير لمسكنه ماشياً إذا تأخرت المواصلات، ولكن بالمقارنة مع غيرنا تجد أننا نعيش في نعمة وأحسن حال.! فـ لا أحد يمكنه أن يتصور كيف يعيش السكان في الريف البعيد إلاّ إذا ذهب إلى هناك ورأى بأم عينه، حينها سيعرف المعنى الحقيقي لكلمة معاناة، وقد يحتار الكثيرين كيف يحتمل المواطنون العيش في أطراف العاصمة البعيدة التي ليس فيها أي خدمات، ولكن إذا عرفت حال بعضهم عندما كانوا في مساقط رأسهم فلن تتعجب.!
(4)
دعني أنقل لك بعض المناظر للحصول على المياه في بعض القرى البعيدة، السكان هناك يخوضون الكثير من المغامرات من أجل (جركانة) ماء، بنات القرية عادة ما يقمن بعملية جلب المياه، وفي سبيل ذلك يعتلين ظهور الحمير المصحوبة (بـ جركانتين) ويتجهن ناحية البئر، التي في كثير من الأحيان تبعد من مباني القرية كيلومترات عديدة، وعندما تذهب الفتاة هناك تجد مجموعة من البشر والإبل والماعز والأبقار، كلهم ينتظرون دورهم في السقاء، وعندما ترتوي هذه الجمهرة؛ تقف على حافة البئر، وترمي بدلوها، والبئر هذه عمقها قد يصل إلي خمسين متراً، المقتدرون يجرون حبل الدلو الطويل بـ (الجِمال)، وهذه يمتلكها الرعاة وأولو العزم من أهل الحلة، أما فتياتهم فيعتمدن على عضلاتهن (التبش)، وهذا (التبش) تكوّن جراء رفع وإنزال (الجركانات)، و(دق العيش)، و(حتّ السمسم)، و(الفزع) لإحضار الحطب، وحلب الغنم والبقر والإبل.! وجركانة المياه الواحدة يتم الحفاظ عليها لثلاثة أيام بـ لياليها.!
(5)
بعض القرى تعتمد على (المضخة)، ويطق عليها الأهالي اسم (الكرجاكة)، وهي مخصصة لرفع المياه الجوفية من باطن الأرض، وتعتمد على المجهود العضلي، ولكي تملأ منها جركانة واحدة ستبذل جهداً لا يُقّدر إلا باستخدام أحد قوانين نيوتن للحركة، وحتى هذه صفها طويل وقد تجد قرية كاملة بها (مضخة) واحدة، مع أنه في المدن لا تكفي لمنزل واحد!
بجانب ذلك يشرب بعض أهل القرى من مياه (الحفير) التي تكونت بفعل الأمطار الموسمية وهذه يشاركهم فيها الماعز والأبقار والجمال، وهي مياه بنية اللون علاوة على أنها راكدة، هذا غير البهائم التي تدخل فيها (قداديمها)، وقد تساهم في تلويثها بمخلفاتها، ولا زال عالقاً في ذهني في زيارتي لإحدى القرى منظر مجموعة من الحمير كان شعر بطونها منفوشاً من كثرة وتكرار دخولها لـ (الحفير) بسبب وبلا سبب.!
(6)
نحن أبناء المدن نعيش في نعمة مائية كبيرة والحمد لله، صحيح أن مواسيرنا كثيراً ما تشخر ليلاً ونهاراً، إلاّ أننا أفضل حال من الكثيرين، ونحن حقيقة نبدد الكثير من المياه، ونطلق لـ مواسيرنا العنان، فـ الماء الذي يستهلكه الفرد الواحد منا في اليوم - في مثل هذه القرى- يكفي عشرين أسرة، ومنا من يضيع ثلاثة جوالين في وضوءه فقط، وهذا يعود إلى أننا لم نتعب فيها كثيراً، لم نركب لها حماراً، ولم نجرّ لها أشطان بئر، فإننا وبنظرة نسبية نعيش في نعيم، ومياهنا التي نشتكي من قلتها وكثرة قطوعاتها؛ بالنسبة لبعض الأرياف تعتبر لا مقطوعة ولا ممنوعة، فهم يشربون ماءاً حاراً ومالحاً وملوثاً، فـ لـ نحمد الله على هذه النعمة ولا نتضجر من مجرد إنقاع المياه لساعات.!
0 التعليقات:
إرسال تعليق