(1)
عندما تجد نفسك في شارع مقطوع عن سبل المواصلات العامة، وتبعد عن وجهتك عدة أميال، ويبعد جيبك عن أجرة التاكسي عدة سنوات ضوئية، ستضطر حينها أن ترفع يدك لتؤشر للعربات الملاكي الخاصة، أنت -عزيزي المواطن- في هذه الحالة ترتكب جريرة تدعى (الملح)، وتمارس عملية تسمى (التمليح)، والعربة التي ستركبها يُطلق عليها اصطلاحاً اسم (ملحة) - بفتح الميم وتسكين اللام- وهذا ما حدث معنا منذ سنوات إبان أيام الدراسة بـ الجامعة، حيث كنا نحن مجموعة من الطلاب النجباء المفلسين نسكن في (داخلية) تبعد عن أي مواصلات معروفة، فما كان منيّ -ومعي نفرٌ كريم من الزملاء- إلاّ أن (نُملّح)، وفي أول يوم لي في السكن، حيث أنني كنت (برلوماً) آنذاك سألت (السناير) عن المواصلات التي توصل للجامعة، أجابني أحدهم بأنها غير موجودة ولا مفر من (التمليح)، في البداية رفضت رفضاً قاطعاً وباتاً أن (أُملّح)، ولكن أقنعي كبيرهُم بأنه سوف يذهب معي في اليوم الأول وبعدها سأعرف الطريق لوحدي، وبالفعل خرجنا ووقفنا على طرف الشارع وقال لي بجدية:
- تركب (لانسر) وللا (مرسيدس)؟
اندهشت من سؤاله ولكن أجبته بجدية أكبر:
- والله أنا شايف أحسن نركب (بي إم دبليو)!
نظر لي نظرة يمكن ترجمتها إلى:
- تختار على كيفك إنت قايل العربات ديل حقات أبوك؟
لم نركب ولا واحدة من الفارهات أعلاه وأوصلنا صاحب (أتوز) حتى أبواب الجامعة.!
(2)
مع مرور الأيام أصبحت (مُمَلحاً) محترفاً يشار إليه في الداخلية بـ البنان، وأذكر مرة توقف لي صاحب (موتر) وأشار لي أن أركب خلفه، ترددت في البداية ولكن توكلت على الحيّ القيوم وركبت معه، ولكنني فيما بعد ندمت على ذلك اليوم الذي أوقعني في هذا المتهور، أوّل كلمة قالها لي:
- (أمسك قوي)!!
وبعدها طار بنا وكأنه في طريقه لـ حمل اللقب في بطولة العالم لـ سباق الدراجات النارية لفئة (السوبر ستوك)، انطلق هذا المجنون في الشوارع المزدحمة بالسيارات بسرعة رهيبة، كنت أوصل للجامعة في نصف ساعة بـ (الملح العادي)، وأوصلني هذا المجنون بـ أعجوبة في أربع دقائق فقط، نزلت منه وأنا أترنح كـ السكران، وأرى الدنيا من حولي تدور أفقياً، ثم تدور رأسياً، وقررت بعدها ألاّ أركب أي نوع من أنواع (الملح)، ولكن تراجعت عن قراري مُكرهاً في اليوم التالي مباشرة.!
(3)
أذكر مرة أخرى ركبت مع أحدهم في سيارة فاخرة، ما إن جلست في مقعدي حتى ابتدرني بـ الحديث قائلاً:
- ده مشى وين ده؟!
صرت أتلفت حولي داخل العربة ولم أر غيري يمكن مخاطبته، والتفت الرجل نحوي وقال لي بـ لهجة عصيبة:
- هسع قبل شوية كان هنا يقوم يختفي فجأة؟!
قلت في سري:
- بسم الله .. الظاهر أنا ركبت مع واحد مجنون.. الله يستر!
فسألته:
- إنت قاصد شنو يا أستاذ؟!!
فقال لي بحدة:
- كدي قوم دقيقة!
قمت من المقعد لأري ماذا سيفعل، وكل هذا والعربة تسير بسرعة تسعين كيلومتراً في الساعة، فانحنى نحو مقعدي وتناول من تحته شيئاً ما وهو يهتف بـ ارتياح:
- بس .. ابن الكلب لقيتك!!
مددت رأسي لأرى هذا الكنز المفقود فـ وجدته (كيس سعوط) متوسط الحجم، ترك الرجل عجلة القيادة والعربة تسير بذات السرعة لـ يفرك (كيس السعوط) حتى يستخلص ما لصق به من (تمباك) على جداره، وبعد معاناة استطاع أن يظفر منه ما يعادل نصف (سفّة)، (شنقها) ثم نفض يديه وواصل القيادة وكأن شيئاً لم يكن، وأنا في هذه اللحظة كنت اقرأ ذلك الدعاء الذي ينتهي بـ (وكما فلقت البحر لـ موسى فنجيته من الغرق، فـ نجني مما أنا فيه من كرب بفرج عاجل وغير آجل وبرحمتك يا أرحم الراحمين) . وعلى الرغم من قيادته المتهورة وفكه لعجلة القيادة بسبب وبلا سبب، وصلنا سالمين بقدرة قادر.!
(4)
من خلال ملاحظاتي في (عالم الملح)، وجدت أن صاحب العربة الملاكي السوداني ينقسم إلى عدة أقسام: قسم يقف لك بدون حتى أن ترفع له يدك، وآخر يقف بعد أن ترفعها، وغيره لا يقف لك وإن رفعت له (عكاز)، وأفضلهم ذلك الذي يقف حتى بدون أن تؤشر له، وأن منهم من يحب الصمت ولا يتحدث معك حتى تصل لمكانك، ومنهم من يفضّل الثرثرة، وأذكر أنني ركبت مع رجل خمسيني سألني عن اسمي واسم والدي واسم جدتي من أبي، وبعدها سرد لي بعض المشاكل العائلية من نوع أن (الوليّة) مبذرة، ولا تذاكر للأولاد، وأن المرتب لا يكفى لسبل العيش الكريم.!
(5)
من الخبرات التي اكتسبناها ممن سبقنا في (التمليح)، وأحب أن أملكها لـ الطلاب والطالبات من هواة (ركوب الملح). في البداية من الخطأ أن تركب مع صاحب عربة ملاكي في المقاعد الخلفية، أنت هنا تعطيه إحساس أنه سائقك الخاص، لذلك من الأفضل أن تركب في المقعد الأمامي، لا تفتح (باب ونسة) مع الرجل فهو في غنى عن أي ثرثرة، وإن كان لابد فـ اتركه حتى يبدأ هو، لا تسأله عن وجهته ولا توصف له وجهتك حتى يسألك، فأنت -عزيزي الطالب- لست مؤجراً (ليموزين)، إياك أن تفرقع له أصابعك عند وصولك لوجهتك، لأنه ليس كمساري في خط الحاج يوسف، أطلب منه بلهجة مهذبة أن يقف لك هنا، وبعد نزولك أشكره فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
وأتمنى من أصحاب السيارات الخاصة أن يطبقوا (شعيرة فضل الظهر) ويرفعوا شعار (ارفع معك طالباً) فـ الكثير من الطلاب تفوتهم المحاضرات والحصص بسبب المواصلات ولا يضيرك أن ترفعه معك في طريقك فـ تحل له كربة من كرب الدنيا وتفتح لنفسك باب من الحسنات لا ينضب.
0 التعليقات:
إرسال تعليق