الخميس، 7 يناير 2010

التلميذ في السودان والتلميذ في بلاد الغرب

(1)

إذا عقدنا مقارنة سريعة بين التلميذ عندنا والتلميذ في أي دولة متقدمة، غربية كانت أم آسيوية، نجد أن المدرسة هناك تطلق طاقات التلميذ الإبداعية وحثه على أن يأتي بجديد، وأن يدلي برأيه حتى في بعض الثوابت مثل النظريات العلمية المقيدة بقوانين لا تقبل مجرد المناقشة، فتلميذهم يناقش أستاذه ويبادله الآراء، وأحياناً يدلي التلميذ بفكرة مبتكرة تعمم على جميع المدرسة، مما يشجع البقية على الإبتكار، وحتى يتم غرس روح الفريق في التلاميذ يتم تقسيمهم في الفصل إلى مجموعات صغيرة يعهد لكل مجموعة منها بدراسة موضوع أو مسألة ثم يعودون بعد انتهاء الواجب لتقديم أحدهم نيابة عن المجموعة لتقديم خلاصة الجهد المشترك، ويمتد هذا الأسلوب من التعليم قبل المدرسي وحتى التخرج من الجامعة.

(2)

أما التلميذ عندنا فأمره يختلف، يقضي كل سنوات تعليمه وهو جالس على مقعد المتلقي، فهناك أستاذ يقوم بالشرح وتلميذ يتلقى، وإذا كان هناك ثمة تفاعل فهو قليل إلى درجة الإنعدام، ويكون تفاعلاً فردياً، وهنا يبرز الفارق الكبير بين دور المتلقي الذي ينتهي بامتحان يتحمل في كل تلميذ نتيجة عمله، وبين العمل الجماعي الذي يتأصل في التلميذ منذ الصغر، ويعتاد عليه وعلى نتائجه، ففشل الفرد هنا يعتبر فشل مجموعة، ونجاح المجموعة يتوزع على الكل، لذا تجد أن التلميذ في الغرب وفي اليابان والصين وبعض الدول التي تقدمت في السنوات الأخيرة، تجده ينمو فيه الشعور بتحمل مسئولية الفريق منذ تلمس خطواته الأولى في الدراسة، بل وفي مرحلة مثل (الروضة)، وعندما يرتقي إلى المدرسة يتم تدريبه على إنتاج المعرفة بدلاً من أن يكون مستهلكاً لها فقط، وإنتاج المعرفة يحتاج إلى إطلاق العنان لخيال أطفالنا، وفي ذلك مقولة لـ (آينشتاين) : (العلم ثمرة الخيال)، وما نظرية النسبية إلاّ ثمرة لخيال خصب ممتلئ بالقدرة والإمكانيات.

(3)

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن أن نطلق عنان عقول الأطفال؟ وكيف نخرجهم من دائرة الحفظ والتفريغ على ورقة الإمتحان؟ وكيف نجعلهم يبدعون ويخرجوا من مكامن عقولهم أفكاراً جديدة؟ وكيف نطور إمكانياتهم على التحليل والإستقراء؟

للإجابة على هذه التساؤلات لابد من النظر للعملية التعليمية برؤية مختلفة، فهنا قد اتضحت المشكلة، وهي أن عقل الطالب صار محصوراً بين أن يحفظ، وأن يفرغ ما حفظه فيما بعد على ورقة الامتحان، وهذا الأسلوب يؤدي إلى تجميد ملكات الإبداع والتحليل والاستنتاج، حتى أن التفوق صار مفهومه هو عدم الخروج عن النص المتمثل في الإجابة الواحدة، فكل الطلاب والتلاميذ يكتبون نفس الإجابة، حتى أن المتفوقين صاروا عبارة نسخ كربونية بلا إضافة أو تجديد.

المشكلة كلها تكمن في نظام الامتحانات الذي هو جزء من نظام تعليمي يقوم على الحفظ والتذكر والتلقين، ولا يشجع على الإبداع، ومثل هذا النظام، نظام الإجابة الواحدة والقطعية على نمط (أجب بلا أو نعم) أو (ضع دائرة حول رقم الاجابة الصحيحة) هو نظام يجهض روع الإبداع لدى التلميذ وينال من قدراته وإمكانياته ومكمن المواهب المتميزة في عقله، فـ الامتحان يقوم على النموذج الواحد، والمعني الواحد، ويجعل التلميذ خاضعاً لمقرر دراسي لا يجب الحياد عن نصوصه أبداً، فكيف يمكن للعقل أن ينشط ويخرج مكنونه من أفكار ومواهب إذا كنا نطالب التلميذ في جميع المراحل أن يكتب ما هو موجود بالنص في المقرر دون خروج عن المألوف، وإذا حاد عن ذلك قيد أنملة معناه الفشل والرسوب، فـ مثل هذا النظام يخلق نسخاً متشابهة، وأنماطاً متطابقة تفتقر إلى التميز والتفرد والإبداع، ومن يراجع إجابات أوائل الفصول في الأساس والثانوي، بل وحتى الجامعة؛ يجدها نسخة كربونية منسوخة عن سابقيهم من الأوائل، وكلهم – إلا القليل- يخرجون إلى المجتمع بفهم واحد ورؤية واحدة، لأن مسيرتهم التعليمية كانت من البداية هي استسلام لمقرر دراسي، ثم تعاطيه كما هو، واسترجاعه يوم الامتحان، والامتحان نفسه تكون البراعة فيه هي استرجاع المادة المحفوظة كما هي، بغير إضافة أو تعديل أو نقد أو تخيل أو إبداع، لأن العملية التعليمية كانت من البداية هي حشو أدمغة التلاميذ بالمقررات مع تضييف مساحة التفرد عندهم، وحتى إذا كان المقرر لا يسمح بالتفرد فمن المفترض أن يقوم بهذه العملية المعلم أو المعلمة في الفصل، أن يشجعوا ويفسحوا الفرصة للتلميذ أن يأتي بشيء من عنده ولو خارج إطار المقرر والامتحان، والتلميذ ليس صغيراً على أن يأت بجديد رأي أو فكرة، فإذا سألت التلاميذ عن آرائهم في المقررات الدراسية التي يدرسونها ستسمع منهم الكثير، وسيدهشك ما سيبدونه لك من نقد ورأي.

(4)

كل ما سبق يقودنا إلى أن ارتفاع درجات التلاميذ والطلاب من مرحلة ما قبل التعليم المدرسي وحتى تخطي آخر عتبة في المرحلة الجامعية، ارتفاع الدرجات هنا لا يترجم القدرة العلمية الحقيقية للتلميذ أو الطالب، فإذا نظرت للأمر بعين المنطق تجد أن ارتفاع نسب النجاح هو عبارة عن تضخم في الدرجات بغير كفاءة أو فاعلية، ويشبه التضخم المالي، وهذا يمكن أن نطلق عليه (التضخم الفكري)، وهذا نتائجه السلبية عادة ما تظهر بعد تخرج الطالب من الجامعة وخروجه لسوق العمل يجد نفسه - ما عدا القلة- لا يستطيع أن يأتي بجديد في مجال عمله، أو يجد صعوبة بالغة في نحت عقله واستنفار مكامن الابداع لديه، لأن عقله منذ الصغر تعود على أن كل مشكلة لا إجابة واحدة فقط، وحتى هذه الإجابة لا يكلفه الأمر سوى حفظها قبل أن يُسأل عنها، والناظر بعين المقارنة إلى هذه آثار هذه المشكلة يجدها تمتد وتتغلغل في حياتنا التي تعودت على النمط الواحد، أنظر في كل المجالات، من النادر أن تجد جديداً في الساحة إلاّ القليل، وقد تجد إن الجديد هو ذاته عبارة عن نسخة معدل عن سابقه، وحتى المبدعين عندنا تجد أن إبداعهم أتي نتيجة لطفرة أو لاجتهادهم الخاص، وليس نتيجة لعملية تعليمية مدروسة تشجع على الإبداع منذ الصغر.

(5)

نحن الكبار - نسبياً- أعتقد انه فات فينا الفوات لكي نبدع ونأتي بجديد يذهل، فـ الأمل على الصغار في رياض الأطفال والمدارس، فهم وقود المستقبل والاستثمار الحقيقي وعليهم تعقد الآمال في يبدعوا ويبتكروا ويخترعوا، ويخرجوا من دائرة استهلاك المعارف والعلوم إلى إنتاجها، يجب إعطائهم الفرصة لتحرير عقولهم من قيود النمطية، وأن يُترك لهم الباب مفتوحاً للإدلاء بإبداعاتهم ومعرفة ميولهم واكتشاف مواهبهم، فـ التعليم في الدول المتقدمة يبدأ بكشف ميول التلميذ منذ الصغر، فإذا عرفوا أن لديه رغبة حقيقية في أن يصبح مهندساً، يتم تمهيد طريق الهندسة أمامه منذ التعليم ما قبل المدرسي مع إثراء معارفه في بقية العلوم، يجب ألاّ نقيدهم بنمط الإجابة القطعية الواحدة، فهذا الأسلوب يجهض الكثير من الأسئلة والأفكار في عقول التلاميذ، حتى أن منهم من لديه أسئلة لن يجد من يجيبه عليها حتى بعد أن يدخل الجامعة، وأن إبداعه يكون مكبوتاً داخله كل هذه السنين.!

(6)

لعلاج هذه المشكلة لا يمكن أن أقول: نلغي نظام الامتحانات من العملية التعليمية بالمرة، فهذا من شأنه أن يخلق الكثير من البلبلة في الوقت الحالي، وليكن العلاج بالتدرج، بأن يتم غرس روح الفريق في التلميذ، وإدخال نظام البحوث والسمنارات في مدارس الأساسية، وليكن في أشياء وواجبات بسيطة ليتعلموا البحث والتقصي والحوار، والتلاميذ ليسوا صغاراً على هذا، هل تعلم أنه في بعض المدارس في الولايات المتحدة يطلب من التلاميذ تكوين حكومة افتراضية، فـ الفصل يرشح الرئيس والوزراء وكل منهم يأتي ليقدم خططه وتصورته لمنصبه، وهذا يحدث في مدارس بما يعادل عندنا مدارس الأساس، وهذا يدل على أن القائمين بأمر الحكم هناك يعرفون ويقدرون قدرات تلاميذهم جيداً.

(7)

ليس في استطاعتنا أن نبدأ مثل هذه البداية، ولكن لنفعل القليل، وليكن هذا القليل هو أن نعتبر أن أدمغة التلاميذ (رأس مال فكري)، وأن يكون هدفنا الاستثمار فيه وتنميته، وفتح الفرصة أمام إبداعاتهم، وإفراد مساحة لطرح آرائهم وتنمية مخيلتهم، عسى الله أن يخرج منهم علماء يأتون بجديد في شتى المجالات، وليكن هدف العملية التعليمية هي إعداد التلميذ ليكون عالماً، وحينها يمكننا أن نخطو أول خطواتنا نحو التقدم.




0 التعليقات:

إرسال تعليق