(1)
(خرج ولم يعُدْ) عبارة قد تكون سمعتها كثيراً في نهاية الأخبار في الراديو، أو قرأتها في إحدى الصحف، والذي يخرج ولا يعود نسميه (الرايح)، وأن من صفاته الأساسية أنه (مختلّ العقل)، ومن النادر أن تسمع بـ واحد عاقل ونصيح خرج ولم يُعد، على الرغم من أن العقلاء الذين يخرجون بإرادتهم ولا يعودون؛ أكثر من المختلين الذين لم يعودوا، ولكن الذي تلاحظه أكثر أن الأوصاف التي تُذاع من الصعب عن طريقها أن تجد هذا الذي خرج ولم يعد، والذي غالباً ما تكون أوصافه كالآتي:
- عيونه عسلية، شعره قرقدي، أسمر اللون، يرتدى جلابية سمنية، أو قميص اسود وبنطلون أحمر، مختلّ العقل، من يجده عليه تسليمه لأقرب مركز شرطة.!
نسمع مثل هذا الخبر كثيراً، ولكن لم نسمع في يوم من الأيام أن أحد (الرايحين) وجده مواطن سمع بأوصافه من الراديو، لأن الأوصاف السابقة من الصعب أن تجد بها شخص رايح، وإذا افترضنا أنه تم إيجاده، فأنك لن تسمع بتاتاً في أخبار التاسعة تنويهاً كالآتي:
- الإخوة المواطنين الكرام .. نحييكم فرداً .. فرداً .. ونتمنى لكم دوام الصحة والعافية .. نفيدكم بأننا وجدنا الزول الـ كان رايح داك .. ومعليش يا جماعة تعبناكم معانا بالتفتيش .. جزاكم الله خيراً .. وشكر الله سعيكم.!
(2)
إذا كنت تأكل الطعام وتركب المواصلات وتمشي في الأسواق، فمن خلال الملاحظة والبحلقة في وجوه الماشي والغاشي، وإذا دققت النظر جيداً؛ ستجد أن معظم السودانيين تنطبق عليهم أوصاف الزول الرايح، تأمّل في العيون - أختا عيون البنات يا اخوي أنا قاصد الرجال بس- ستجد أن كل العيون أو معظمها عسلية اللون، في حياتي لم أجد سودانياً عيونه خضراء أو كحلية، وجدتُ بعضاً منهم عيونو حمرا وشرارة، وهذه في الأصل كانت عسلية، إلاّ أنها احمرّت لأسباب يسع لها المجال هنا تماماً، لكن مافي داعي.!
الكثير منا يمتلك شَعراً (قرقديا) أو (فلفلياً) .. وهذا عكس الشعر (السبيبي)، ما أعرفه أن الشعر الفلفلي يشبه الفلفل، والشعر (القرقدي) سُمي كذلك لأنه يشبه القُرقد .. والقرقد ده والله العظيم ما عارفو شنو؟ ولكن الذي أعرفه أكثر أن البعض عندما يريد أن يصف أحد المواطنين من ذوي الشعر أعلاه يقول: فلان ده شعرو أي خمسة عاملات اجتماع براهن!! لذلك .. وبما أن من أنعم الله عليهم بالشعر السبيبي الناعم في بلادنا؛ أقل بكثير من أصحاب الشعر القرقدي أو الفلفلي؛ لذا فإن عبارة (شعره قرقدي) لم تعد تصلح بأن يوصف بها أحد عندنا، سواء خرج ولم يعد أو خرج وعاد!
اللون الأسمر هو اللون المعروف للسودانيين وهو الذي يميّزنا عن بقية الشعوب، وهذا لا يمنع أن منا من كان لونه فاتحاً أو غامقاً، هذا للرجال، أما البنات فـ منهن من تتدرج ألوانهم عكس اتجاه ألوان الطيف، ولكن من حكم الله أنني لم أسمع أن فلاناً ما خرج ولم يعد، وأن من أوصافه أنه أبيض اللون! وهذه من الممكن أن تكون نواة لدراسة جديدة مفادها بأن الناس السُمر لديهم قابلية أن يخرجوا ولا يعودوا أكثر من الناس الـ لونهم فاتح.!
بما أن السودانيين معظمهم سُمر، إذاً عندما تصف بأن فلاناً هذا لونه أسمر، تكون قد أهدرت بعض كلمات اللغة العربية في غير طائل، وهذا يشبه تفسير الماء بالماء والبطيخ بالبطيخ!
أما اللبس فمن الحكمة أيضاً أن غير (الرايحين) يلبسون نفس ملابس (الرايحين)، فنحن إما أن يكون لبسنا جلابية أو بنطلون وقميص أو فانلة، مع أن بينهما أمور مشتبهات يلبسها البعض وهي لا لامة في البناطلين ولا لامة في الجلاليب! وهذا يؤدي إلى أن التمييز بالملابس صعب، خاصة وأن الجلاليب معظمها أبيض اللون، وأن ألوان الأقمصة والبناطلين والفنايل لا تتجاوز السبعة ألوان.!
نأتي إلى آخر الأوصاف (مختل العقل)، فـ مرات من الصعب أن تفرز بين العقلاء ومختلي العقول، ولا تظنن أن المجنون أو مختل العقل هو فقط من يطقع الناس بالحجارة في الشوارع، أو يمشي عارياً، أو يتكلم لوحده، إن من المجانين من يلبس أفضل من (توم كروز)، وإذا تكلم معك قد يقنعك بالمنطق بأنك أنت المجنون لكن ما جايب خبر.!
(3)
مما سبق نقترح على ناس الإذاعة أن ينتهجوا نهجاً جديداً في إذاعة أوصاف الرايحين، وأن يكون الوصف أكثر دقة، وسأورد لك هنا مثالاً:
- الإخوة المواطنين الكرام .. خرج المدعو عكرمة بن الأحنف من قبيلة بني تميم ولم يعدْ حتى الآن، أوصافه كالآتي: أولاً أنه حنون، غير مختلّ العقل .. وغير مجنون .. وهو نصيح أنصح مني ومنك.. البعض يقول أنه خرج مغسة ساكت .. وبعض يقول أنه خرج قافلة معاهو.! أما عن ملامحه فإنه أصلع وله رأس صغير مُدردم ومركب على كتفيه بحيث يمكن للجميع رؤيته من جميع الجهات بكل سهولة، مع العلم أن له أنف أكبر من أن يستوعبه الخيال، وأعين أصغر من أن توصف، حواجبه غير مقرونة، وهو لا بالطويل ولا بالقصير ولا بالمتوسط ولا بالسمين ولا بالنحيف، وإنه تيتّم بعد أن وصل الأربعين، وإنه –أحبّتي- عاش حياته كلها مُفلّساً مُشحتفاً وممغوساً فـ لا طال منها عنب المكسيك ولا بلح السنغال.!
0 التعليقات:
إرسال تعليق