(1)
عندما أكون مسافراً إلى الخرطوم، أحزم شنطتي، وأشد الرّحال وكأنني متجهاً إلى استراليا، أو في رحلة لاكتشاف جزيرة مجهولة في قلب المحيط الأطلنطي، وأطبّق ذلك المثل الإنجليزي الشهير الذي يقول:
- المسافر يجب أن تكون لديه عينا صقر ليرى كل شيء، وان تكون لديه أذنا حمار ليسمع كل شيء، وان يكون له فم خنزير ليأكل كل شيء، وان يكون له ظهر جمل ليتحمل أي شيء، وان تكون له ساقا مِعْزة لا تتعبان من المشي، وان تكون له حقيبتان: أحداهما امتلأت بالمال والثانية امتلأت بالصبر.!
أحياناً أنسى ما الذي أفعله كـ صقر، وما الذي أفعله كـ حمار، ولكن من كثرة المشاوير، امتلكت ساقا غنماية جبارة، ذات دفع رباعي في الرملة ما بتوحل، وكنت أطبق هذا المثل بحذافيره، عدا الحقيبة الممتلئة بالمال، الانجليز يحملون أموالهم في حقائب، إنهم أناس (مُرطّبين) ومن الصعب مجاراتهم، أما أنا فأكتفي بمبلغ أوزعه على خمسة جيوب بالتساوي، فـ النشالون هناك يسرقون الكحل من العين، ومن ناحية أن تأكل كل شيء؛ دعاني صديقي إلى مطعم اعتقد أنه راقٍ، أتى لنا القوم بدجاجة مُحمّرة، جناحاها طويلان، ورجلاها طويلتان، لم أرْ منقارها ولكن أعتقد أنه طويلاً كذلك، وعلى ظهرها اثر كدمات وضرب عنيف، احترمت نفسي ولم أسأله من أين أتت هذه (السمبريّة).!
نسيت أن أخبرك أنني من مدينة كوستي، ولا آتي إلى العاصمة إلاّ في الشدادِ القواصم، أو لمناسبة كبيرة، زواج فما فوق، أو موت فما تحت، لذا سألني الكثيرين لماذا أنت في الخرطوم؟ أجبتهم إجابات متفرقة ومتباينة، مع أن المرء ليس في حاجة لأسباب خارقة ليكون في مكان ما.!
(2)
في رحلتي سجَلتُ زيارة عميقة إلى مقر صحيفة حكايات، وما لا يعرفه القُراء الكرام أنني لم آت مقر الجريدة إلاّ مرتين، في المرة الأولى كانت زيارة خاطفة، والمرة الثانية انقسمت إلى خمس مرات خاطفات، أما مراسلتي لـ الصحيفة، فـ البركة في الانترنت، حيث ينطلق المقال من كوستي ويصل الخرطوم، ليدخل بسرعة التفكير في جهاز سكرتير التحرير الأستاذ (العشاي)، الذي يزجُّ به في كمبيوتر الأستاذ وجدي الكردي، الذي يقلّبه ذات اليمين وذات الشمال، ثم يدفع به إلى كمبيوتر (أدروب) المصمم البارع، الذي يضعه في الصفحة أفقياً أو رأسياً حسب درجة حرارة الغرفة، ومنها يذهب إلى المطبعة، ثم يأتي إليك عزيزي القارئ، فتقرأه ومعه بقية الصحيفة، التي بعدها تذهب إلى المطبخ لتُفرش تحت قطع طعمية أو شرائح بطاطس مقلية، أعتقد أن هذه هي رحلة الجريدة من الألف إلى الياء.!
دخلت مبنى صحيفة حكايات من بابها كما يفعل أي شخص محترم، وللعلم أن من يدخل مبنى حكايات للمرة الأولى بدون خارطة أو دليل، أو بلا هدى أو كتاب مبين؛ فهو يستحق ما يحدث له، المبنى ليس كبيراً، ولكنه يشبه المتاهة، الدخول إليها سهلاً الخروج منها صعباً، وقد تقوم الساعة ولا تعرف نفسك هل أنت بالقرب من مكتب (لقمان)، أم انك في طريقك إلى مكتب (أحمد يونس).! وفي أثناء تواجدي هنالك تقمّصتُ شخصية الدليل السياحي، فـ الكثير من الزوار الكرام يحومون داخلها ويدورون لربع ساعة، ثم يسألونني عن طريق الخروج.!
(3)
ومن حسن حظي صادفتهم في الجريدة يخططون لـ (قعدة) صغيرة للـ أستاذ يحى فضل الله بمناسبة عودته من القاهرة، كانت (القعدة) في مكان بعيد اشتهر بتقديم اللحوم المشوية، وهو يبعد عن وسط العاصمة مشوار أبعد من المسافة بين ألسكا وسيبيريا، ذهبنا إليه في سيارات مكيفة عالية الإحساس والشفافية، وفي هذه الـ لمّة إلتقيتُ بـ ببعض كُتّاب وصحفيي حكايات، منهم الدكتور المرح فتح العليم عبد الله، على الرغم من أننا كلنا مدعوين إلاّ أنه يشعرك بأنك المدعو والداعي والضيف وصاحب البيت، وأذكر أنه كان يحوم في الصالة الصغيرة وهو يبحث عن نعاله، قال له أحمد يونس مدير التحرير كلاماً بما معناه:
- أظنّك جيت حفيان يا دكتور؟
رد عليه د. فتح العليم بسرعة عشرة ألف كلمة في الثانية تربيع:
- جيت حفيان أصلو أنا جاي عائم!
التقيتُ بمن أتى الجميع من أجله الأستاذ يحي فضل الله، وللعلم إنه مبدع متعدد المواهب، فهو شاعر مخضرم، وهو من كتب أغنية (يا ضلنا) للراحل المقيم الأستاذ مصطفى سيد أحمد، ومعها مجموعة من الأغنيات، وصحفي، وكاتب قصة من الطراز الأول، ممثل مسرحي وإذاعي، ومعها بعض مما لا أتذكره الآن، حضر كذلك الأستاذ الفاتح جبرا وأسرته الصغيرة، والأستاذ البشوش سعد الدين إبراهيم، صاحب (النشوف آخرتا)، عرفت منه أنه كتب أغنية (أبوي شعبتنا) منذ إن كان في الواحد والعشرين من عمره، حضرت كذلك صاحبة القلم الجميل الأستاذة فاطمة كرار، افتقدت الجلسة الأستاذ علي يس والأستاذة عفاف حسن والأستاذة منى سلمان فقد كانت في مهمة خارج الحدود، أتى كذلك وفد رفيع المستوى من صحيفة الرأي العام التي تبعد نحو فرسخ واحد من حكايات.!
(4)
أقصر قصة في التاريخ:
- عَمِيَتْ .. أهداها عيونه .. فطمعت في حواجبه.!
0 التعليقات:
إرسال تعليق