(1)
خرجتُ من بطن أمي أعمى تماماً، وحكوا لي فيما بعد أنني فتحت أعيني بعد شهر، وبعد شهر آخر اكتشفوا أنني لا أرى، كبرت قليلاً واستسلمت للأمر الواقع، ورضيت بالمقسوم، تأقلمت مع كوني أعمى، والغريب أن أبى أطلق على اسم (النور)، ودوماً اسمع أمي تدعو لي أن أرى النور، ولو بعد حين.!
نشأت اعتيادياً مثلي وأي طفل في عمري، باستثناء أنني أعمى، وحقيقة لم يكن هذا يعني بالنسبة لي شيئاً ذي أهمية، فأنا أساساً لا أعرف معنى أن يكون المرء مبصراً، لم أجرب هذا الشعور من قبل، اسمع الناس يحكون عن الألوان، هذا (أحمر)، وذاك (أخضر)، ولكني لا أعرف ما هو الأحمر، واسمعهم يتحدثون عن السيارات والعمارات والتلفزيون، وغيره من تفاصيل الحياة، ولكن لا يمكنني أن أتخيل شكل هذه الأشياء، صحيح أنني لمست بيدي أنواعاً كثيرة من السيارات، ولكني أعجز عن وضع تصورٍ معين للسيارة في عقلي…! وهل تصدقون أنني لا (أحلم)، ولم يحدث لي أن رأيت في منامي أي حلمٍ أو رؤية..!! ولا أعرف حتى كيف هذا، ما اعلمه أنّ الذي يحلم، تكون أحلامه انعكاساً لأشياءٍ رآها في يقظته، أما أنا فـ لم أرْ في يقظتي شيئاً أبني عليه أي حلم…!
(2)
إنني الآن بلغت الخامسة والعشرين من عمري، ولا زلت أعمى، ولكن في إحدى الأيام استجاب الله لدعوات أمي، وأصبحت ما بين ليلة وضحاها (بصيراً)..!! هل تصدقون أنني الآن أرى..!!؟ وأول وجه رأيته وجه أمي، التي عانقتني بشدة، وبكت وهي تحمد الله كثيراً الذي أنعمني بـ البصرْ، وفي ذلك اليوم لم تسعْها الفرحة هي وأبي، ذبحوا الذبائح، ووزعوا الكرامة لكل أهل الحلة، الذين توافدوا علينا ليباركوا لها هذه النعمة الكبيرة ويهنئوني بالبصر، أنني بالطبع كنت لا أميز الناس إلا بأصواتهم، وحتى عندما التقيتهم، أنتظرهم حتى يتحدثون ثم أخاطبهم بأسمائهم، هذا هو حاج حمد الرجل الطيب ملامحه تشع بالحبور، وذلك صديقي علي، والكثير من الأهل الذين لا يسعني ذكرهم..!
(3)
اعتدت على الشمس بعد شهر كامل كنت خلالها محبوساً في المنزل، وعندما خرجت اكتشفت أن أمامي حياة جديدة كلياً، فصرت أنظر لما حولي بدهشة، فكل شيء بالنسبة غريب..!! الشمس .. الأرض .. السماء .. سريري الذي أنام عليه.. كوبي الذي أشرب به، وكنت ألمس أي شيء واستفسر عن كنهه، وتعب معي أخي الصغير تعباً شديداً، ليعرفني على الأشياء كصغير على أعتاب الكلام.!!
(4)
أول شيء لفت نظري في دنيتي الجديدة شكل شيءٍ غريب..!! هو حيوان على الأرجح، له زوج من الأرجل التي تنتهي بثلاثة أصابع، ورقبة متوسطة، له شيء أحمر مركب على شيء آخر لعله رأسه..!!
سألت أخي بدهشة:
- ده شنو يا حسن..؟؟!!
ضحك حسن حتى دمعت عيناه، وأجابني وسط ضحكاته ببساطة:
- ده اسمو (ديك)..!!
طبعاً لا أظنكم تتصوروا كيف منظري وأنا أنظر للديك بدهشة هي أقرب إلى الذهول، وكأني أنظر لمخلوق أتى من الفضاء لتوه، إذاً هذا هو الديك الذي يزعجني بصياحه كل يوم، بالطبع لم أكن أتصور أن الديك بهذه الشكل العجيب، وهل تصدقون أن الديك أصبح هو مقياسي لكل شيء في الحياة ، كان عندما يقودني أخي للتجوال في القرية، يقول لي:
- الليلة حـ نشوف البقرة..!
فـ أجيبه وأنا أحاول أن أرسم للبقرة شكلاً في ذهني:
- طيب والبقرة دي وين للديك ..!!
فينفجر ضاحكاً وهو يبدو مستمتعاً بهذه اللعبة ويقول:
- ما تستعجل .. حـ تشوفها بعد شوية..!!
عندما رأيت البقرة، اندهشت بالطبع، فالدهشة صارت سمة لي، ولكنني فوراً ربطتها بـ الديك، فـ هي من وجهة نظري تشبه الديك، وتختلف عنه في أنها أكبر حجماً ولها أربعة أرجل، وزوج من القرون..!!
بدأت أتعرف على الألوان شيئاً فشيئاً، فـ الأحمر هو لون عُرف الديك، والأصفر، والبني والأخضر، هي من مكونات ريش الديك، ألم أقل لكم أن هذا الديك لا يريد أن يفارق مخيلتي..!
(5)
عرفت كل الأشياء بالقرية، جميع الحيوانات، من الديك وحتى الإبل، أرجو أن تسخروا مني،فأنا آتي باسم الديك كثيراً هنا، فهو أول شيء رأيته في الحياة، سجلت كل هذه التفاصيل، وأشعر أنه ينتظرني الكثير لأراه، خرجت من جو القرية إلى المدينة، ولا أستطيع أن أصف لكم دهشتي بكل شيء رأيته، والناس يتطلعون لنا أنا وأخي بتعجب، وأنا أسأل عن أشياء بالنسبة لهم بديهية، وأخي يجيبني بـ جدّية، حتى ظنوا أننا مجنونان تمكنا من الهرب من مستشفى التجاني الماحي لتوِّهِمْ، فـ الأشياء جميعها لم تكن بالنسبة لي مألوفة، كنت أسأل وأخي يجيب في حرج:
- ده عمود نور ..!
- دي كارو .. وقدامها حمار ..!!
- الطويل ده شارع الزلط..!
- داك كبري..!!
- الجا ماشي بي هنا ده موتر..!!
- الزول الفارش الحاجات ده قدامو حاجات كتيرة: دي ضفارة، وده كشكوش بتاع اطفال، والب جاي دي اقلام، الطرف هناك دي علبة هندسة وجنبها كراسات…!!
(6)
هكذا صار أخي حسن كل يوم يتجول معي ليعرفني بأشياء أكثر، وهل تصدقون أنني أصبحت مدمناً لذلك الصندوق الصغير الذي يسمي بالتلفزيون..! وهذا من أعجب الأشياء التي واجهتني في الحياة، فهو يريني الكثير من الأشياء التي لم أرها في حياتي، ولكن هؤلاء الحمقى بداخله لا يذكرون أسماء الأشياء التي تحيط بهم، ألا يضعون حساباً لشاب ولد أعمى، ثم أبصر بعد ثلاثين عاماً من العيش في الظلام، ولكنني كنت أتعّرف على الأشياء التي تظهر في التلفزيون بمساعدة أخي حسن، الذي ارتفع ضغط دمه في الأيام السابقات، لماذا لست أدري..!!؟ وكنت أناديه بسرعة ليخبرني باسم شيء عجيب حتى لا يختفي، وعندما يأتي يجدها دعاية لماكينة حلاقة..! فيذهب مني مزمجراً بغضب..!
(7)
في ذلك اليوم قررت أن أتخلى عن خدمات أخي، خرجت للشارع وحدي، تجولت، واستكشفت العالم من حولي، وأنا أنظر لكل شيء بدهشة، حتى ظنّني الناس معتوهاً، أول ما لفت نظري بائع يعلّق بعض الأشياء التي تتدلي من خيط طويل، سألته عن اسم هذا الشيء الملتوي العجيب، نظر إلى بـ تعجّبٍ، ثم أجابني بأن هذا (موز)..!! ثم التفت ليبيع لزبون آخر وهو يتمتم بكلمات عجيبة، تفيد بأنه لا ينقصني الآن..!
ذهبت عنه وواصلت تجوالي وتوقفت عن إلقاء الأسئلة، حتى لا يتهموني بـ الخَبَلْ، ولكن في طرف شارع ما رأيت شيئاً أصابني بـ حِيرة من الصعب وصفها، هذا الشيء بالذات لن استنتج اسمه ولو خمّنت لمائة سنة قادمة، أخي حسن لم يخبرني به، ولكنه يشبه الديك في بعض الصفات، إلا أنه أكبر حجماً، تأملته بتعجبٍ، درت حوله، وفي إثناء هذا أتى نحوي أحد الشباب وقال لي ببساطة:
- مرحباً يا أستاذ .. أنا سيد الركشة .. داير مشوار..؟!!
0 التعليقات:
إرسال تعليق