رجع (منصور) إلى المنزل آخر اليوم منهكاً وتعباً من كثرة المشاوير التي مشاها من الصباح، رمى الملف الذي يحمله علي أقرب كرسي صادفه في طريقه، وارتمى على أقرب سرير دون أن يخلع نعليه وهو يزفر بضيق ويحدث نفسه:
- برضو ما في وظيفة شاغرة .. الواحد يلف من الصباح عشان يلقى شُغل .. ويرجع بي خُفّى حنين .. خُفي شنو ياخ .. انا بالذات برجع بي سفنجات حنين .. ذاتا كل سفنجة من بلد .. وبعدين أدخل خمسة وأربعين معاينة .. ولا واحدة ما تصْدُقْ .. ده حظ شنو ده المهبب ده ..؟؟!!
ثم أضاف لنفسه بزهج:
- آآخ .. والعجب وظائف الشركة ديك .. يدخلو المعاينة إلفين ونص .. دايرين منهم خمسة .. وينجحوا تلاتة .. يوظفوا منهم اتنين معروفين من البداية .. !!
في هذه اللحظة دخلت والدته الغرفة وهي تنظر إليه بدهشة أثناء محادثته لـ نفسه وقالت:
- بتتكلم براك مالك يا ولد .. جنيت وللا شنو؟
التفت إليها وقال بضيق:
- الما بخلينا نجن شنو .. عطالة خمسة سنة.. يعني أنا عندي بكالوريوس من الجامعة .. وبكالوريوس بـ مرتبة شرف في العطالة .. شهاداتي من كترت التصوير لمن لونها بهت .. !!
ربتت والدته على كتفه برفق وهي تقول بلهجة مواسية:
- كل شيء قسمة يا ولدي .. كل شيء قسمة.
ثم ذهبت عنه وتركته يطنطن بعبارات مبهمة وهو يلعن حظه العاثر.!
(2)
في ذلك اليوم خرج (منصور) للشارع لـ يتمشّى بعد أن زهج من مساسكة الوظائف، وقادته خطواته لـ مطعم (عم كامل)، فـ وجده مشغولاً ومنهمكاً في إدخال وإخراج (الكمشة) في (قِدرة الفول) الكبيرة، ومن حوله بعض العاملين ممّن يلبون طلبات الزبائن، هذا يريد زيادة زيت لـ فوله، وذاك يطلب القليل من الملح، وآخر لم تكفه الرغيفة الواحدة فـ طالب بـ أخرى، انتظره حتى خفت طلبات الزبائن، ثم سلّم عليه قائلا:
- السلام عليكم يا عم كامل.
رد عليه وهو يلملم بعض الأطباق والصحون المتناثرة:
- مرحباً يا ابني منصور .. اتفضل ..!
- شكراً .. داير اسألك يا عم كامل .. يعني ما بتلقى لي شُغل عندك هنا في المطعم؟!
فكّر عم كامل قليلاً ثم قال:
- الحقيقة .. في وظيفة واحدة شاغرة .. كان شغال فيها ولد صغير ومدرستو فتحت.. وما لقينا ليها زول ..
رد عليه منصور بـ لهفة:
- أنا بسدّ ليك مكانو .. الوظيفة شنو .. مدير.. محاسب .. ؟!
رد عليه عم كامل ضاحكاً:
- مدير شنو يا ولد .. وأنا قاعد هنا أسوي شنو.. الحقيقة أنا داير لي زول (يسلق البيض).!!
رد منصور مستنكراً بدهشة:
- شنو .!!؟.. أنا أشتغل (سلاّق بيض) يعني؟!!
- ومالو يا ابني سلق البيض ما عيب .. مهنة شريفة .. وأحسن من قُعاد العطالة..!!
- لكن يا عم كامل أنا خريج جامعي..!! .. كيف اشتغل سلاق بيض .. يقولوا علي شنو ..!!
- يعني شنو خريج .. المعاي هنا كلهم خريجين .. الجرسون خريج .. الماسك الفوطة خريج .. البغسل الصحون خريج .. !!
قاطعه منصور قائلاً:
- خلاس يا عم كامل أنا بمسك ليك القِدرة..!!
ضحك عم كامل ضحكة عالية ثم قال:
- القدِرة مرةّ واحدة .. يا ولدي كان جيتني بي ماجستير قدرتي دي ما بمسّكك ليها .. الوظيفة الوحيدة العندي (سلاّق بيض) .. كان داير تشتغل تعال من بكرة..!
(3)
ذهب منصور من مطعم عم كامل غاضباً وهو يحدث نفسه في الطريق والناس تنظر إليه في تعجب، وكان يقول بصوت عال:
- أنا .. أنا.. اشتغل سلاق بيض ..!! خمسة سنة عاطل .. وفي النهاية اسلق بيض .. والله ياهو الفضل .. ؟!
دخل المنزل ببقية زهجته فـ وجد والده ممسكاً بـ جريدة يقلب في أوراقها بـ هدوء، وسأله:
- الليلة مالك زهجان .. برضو ما اتوفقت في شغل..!!؟
رد عليه:
- تخيل يا ابوي .. بعد السنين دي كلها لقيت وظيفة في مطعم .. ؟؟!
- مبروك يا ابني .. أنا ما قلت ليك كان صبرت بـ تتوفّق..!
- دقيقة أتم ليك .. الوظيفة الوحيدة اللقيتها .. (سلاق بيض) في مطعم عم كامل.. تخيّل..!؟
صمت والد منصور قليلاً ثم أجاب:
- ومالو سلق البيض ما عيب .. مهنة شريفة وعمك كامل ده أول حاجة اشتغلها كان سلاق بيض .. ومن البيض ده كوّن نفسو .. واتزوج وربى أولادو.!
ضحك منصور قائلا:
- يعني هسع أنا حـ أبني مستقبلي من سلق البيض..؟!
- إنتا ابدأ واشتغل .. اتمسك بيها لفترة معينة.. وبعد تلقى وظيفة تانية .. ممكن تقدم استقالتك من عم كامل ..!
فكّر منصور قليلاً، ثم قال:
- لكن يا ابوي .. هسع زملائي في الجامعة كان لقوني بسلق في البيض ده .. يقولوا علي شنو!؟؟
- يا بني .. من اشتغل بـ كلام الناس مات هماً .. زملائك وزميلاتك ديل .. كانوا كان قعدت عاطل في البيت .. حـ يصرفوا ليك مرتب..!!
- أبداً..!
- طيب .. خلاس .. امشي اشتغل معاهو من بكرة .. وأنا بخش ليك واسطة لي عمك كامل..!!
سأله بـ دهشة:
- كمان دي برضو دايرة واسطة..!!؟
رفع والد منصور الجريدة معلناً انتهاء المناقشة وقال له بـ لهجة حازمة:
- أمشى أبدأ اشتغل من بكرة .. وعلي بركة الله.!
(4)
أشرقت شمس صباح ذلك اليوم، ووجدت منصور يتهيأ للذهاب لاستلام وظيفته الجديدة، خرج من المنزل وهو يضرب أخماساً في أسداس، ويفكر في عواقب هذه المهنة الجديدة، ويساءل في نفسه:
- ماذا لو رأته أحدى زميلاته الجميلات وهو يسلق في البيض..؟! وماذا لو أتى أحد زملائه من طويلي اللسان وقليلي الإحسان، وفطر في المطعم في ذلك اليوم..؟! سيكشف حاله وسط بقية الزملاء!!
استيقظ من تأملاته عندما وجد نفسه أمام مطعم عم كامل، وحسم موقفه بأن قال لنفسه في حزم:
- أتوكل على الله واشتغل .. أنا خسران حاجة؟!
(5)
دلف منصور لـ داخل المطعم ووجد عم كامل واقفاً خلف قِدرة الفول خاطبه مباشرة:
- أنا موافق اشتغل..!
التفت إليه عم كامل بدهشة قائلاً:
- وافقت تشتغل (سلاق بيض).!!؟
- نعم .. !
- سبحان الله..!!
- وممكن أبدأ معاك من الليلة..!
أجابه عم كامل بـ أسف:
- لكن يا بني معليش .. الوظيفة دي إتعيّن فيها خريج تاني..!!!
0 التعليقات:
إرسال تعليق