(1)
(مُحْسن) أصبح ليس هو (مُحْسن) الذي تعرفه والدته، ويعرفه كافة أهل الحلة، كثيراً ما تجده سارحاً معلقاً بصره في السماء، وكأنه ينتظر قادماً من الفضاء بـِ خبرٍ مثير.! لم تكن هذه هي حالة (مُحْسن) قبل شهر، فمن المعروف أنه مرحاً وثرثاراً يكاد بـ نِقته يستحوذ على مقاليد أي جلسة، ولكن فجأة أصبح صامتاً، لا يتكلم إلاّ إذا سأله أحد ما، ويجيبه بعبارات مقتضبة، عادة لا تتعدي الكلمة أو الكلمتين، قطع جميع صداقاته، عدا صديقه (خالد) الذي يأتيه في المنزل بين فترة وأخرى.!
صار (مُحْسن) لا يأكل إلاّ قليلاً، كل من يسأله عمّا أصابه، تكون الإجابة:
- (لا شيء).!
احتار الجميع في أمره، منهم من فسرّ صمته بأنه يحب فتاة ناولته (شاكوشاً) معتبراً قطع عنه (لمبات الصوت)، وجعله هائماًَ في ملكوتٍ من أوهامه الخاصة، ومن يقول أنه في طريقه كي يصبح شيخاً كبيراً، والكل يفسر حالة (مُحْسن) على هواه، في حين أن السبب الحقيقي لصمته يعرفه هو وصديقه (خالد) فقط.!
(2)
ذلك اليوم سألته والدته بأسى:
- (مُحْسن) يا ولدي .. مالك .. ليك كم أسبوع كده ما طبيعي .. ما بتاكل.. ما بتتكلم .. الحاصل شنو يا ولدي .. قولي لي.!!؟
أشاح عنها (مُحْسن) بصره وصار يحدق في السقف بنظرات تائهة، لفتته والدته وخاطبته مرة أخرى:
- مالك يا ولدي .. عيّان .. عندك مشكلة ممكن أحلها معاك..؟؟!
أجابها (مُحْسن) بكلمات خرجت منه بصعوبة:
- ما في حاجة يا أمي .. اطمئني .. لامة فيني زهجة كده .. كم يوم وبرجع زي الأول!
ذهبت عنه والدته وهو تدعو له أن يهديه الله ويفكّ زهجته.!
(3)
- أها يا (مُحْسن) يا أخوي .. لسة ما عرفت الزول التاني؟
ألقى (خالد) بهذا السؤال لـ صديقه (مُحْسن).!
أجابه (مُحْسن) بـ إحباط:
- والله لسه يا (خالد) .. أنا ذاتي ما عارف يحلوها كيف .. جردّت الناس البعرفهم كلهم .. ما فيهم زول اسمو (محجوب) .. كُلّو.. كُلّو؟؟!!
ضحك (خالد) قائلاً:
- لكن والله ده حالة عجيبة .. أول مرة تلاقيني زي حالتك دي.. كدي فتش يمكن يكون الزول ده شفتو قبل كده في محل ونسيت شكلو .. مستحيل ما تكون قابلتو قبل كده..؟!
رد عليه (مُحْسن) بـ لهجة يائسة:
- ما أظن يا (خالد) .. شهر كامل بفكّر في الموضوع ده …وما وصلت للزول وما .. قدرت أتخلص من الفكرة!
فجأة هتف (خالد) بـ حماس:
- رايك شنو تمشى لي طبيب نفسي .. وما تخاف ما بقولو عليك مجنون .. والأطباء النفسيين ديل بحفظو الأسرار . . يعني أطمئن..؟!
فكر (مُحْسن) قليلاً ثم قال:
- والله فكرة .. خلاس نمشى من بكرة؟!
- على بركة الله.!
(4)
عدّل الطبيب النفسي من وضع نظارته الطبية، ثم قال لـ (خالد):
- ممكن يا استاذ تنتظر صاحبك في الخارج؟!
- جداً.!
رد عليه (خالد)، وخرج ثم أغلق الباب خلفه بـ هدوء.
التفت الطبيب النفسي نحو (مُحْسن) وقال له بلهجة هادئة:
- مشكلتك شنو يا ابني .. أحكي لي من البداية .. !!؟؟
ازدرد (مُحْسن) لعابه بصعوبة ثم قال:
- الحقيقة يا دكتور .. انا لي حوالي شهر كده بشعر بي حاجة غريبة..!!
- حاجة شنو؟!
صمت (مُحْسن) مدة ثم قال:
- بشعر إنو أنا ما أنا!!
رد عليه الطبيب بدهشة:
- شنو؟! . بتشعر إنتا ما إنتا..؟؟!!
- نعم يا دكتور .. بجيني شعور إنو أنا زول تاني .. يعني أنا ما أنا..!!
استعدل الطبيب على كرسيه بـ اهتمام، ثم سأل (مُحْسن) بـ حيرة:
- طيب .. إنتا قلت بتشعر إنك إنتا زول تاني .. ممكن توريني الزول التاني ده منو؟!
فجأة وبدون أي مقدمات أطلق (مُحْسن) ضحكة عالية، حاول أن يكتمها وفشل في ذلك، صار يضحك ويقهقه لمدة ثلاث دقائق كاملة، والطبيب ينظر إليه بدهشة، خفّت نوبة الضحك، قال له (مُحْسن) بصيغة المتعجبّ، وهو يمسح دموع الضحك من عينيه:
- وإنتا قايلني يا دكتور جيتك لي شنو ؟!.. دايرك تعرف لي الزول التاني ده منو؟!
في هذه المرة كان الضحك من نصيب الطبيب، ضحك .. وضحك حتى كاد أن يقع من كرسيه، كان يضحك ويخبط بيده في سطح المكتب، ويمسك بطنه بيده الأخرى، وكان (مُحْسن) ينظر إليه باندهاش، وهو يتمتم في سره:
- بسم الله .. الزول ده جنّ وللا شنو؟
في هذه اللحظة دخل (خالد) عندما سمع صوت الضحكات والخبط الصادر من غرفة الطبيب، دخل وسأل (مُحْسن) بدهشة:
- في شنو بتضحكو مالكم؟!
عقد (مُحْسن) ساعديه أمام صدره، وهو ينظر للطبيب الذي صارت ضحكاته تخف تدريجياً، أجاب (خالد) قائلاً:
- أنا عارف ؟!.. الدكتور ده أظنو جنّ .. وللا جاتو حاجة؟!
هدأ الطبيب، ثم شفط من هواء الغرفة نفساً عميقاً، والتفت نحو (خالد) وهتف بثورة:
- إنتا أطلع برة!
خرج (خالد) مذعوراً وهو يسأل الله السلامة لـ (مُحْسن) والطبيب معاً.!
التفت الطبيب نحو (مُحْسن) وقال له بتعجب:
- لكن والله حكايتك عجيبة .. أنا لي ثلاثين سنة في الطب النفسي.. ما خليت مجنون ما عالجتو .. لاقوني الـ عندهم: (انفصام) .. و(رهاب) ..و(متلازمة مانشهاوزن) .. و(إكتئاب تفاعلي) .. و(إكتئاب ضموري) .. و(وسواس قهري) .. كلهم طلعوا مني نُصاح..والحمد لله.. لكن علي بالطلاق .. ما لاقني زول زيّك .. دي جبتها من وين..؟!! .. إنتا ما إنتا؟!
ثم أردف الطبيب بـ جدّية مخاطباً (مُحْسن):
- أها يا ولدنا . . أنا أجيب ليك الزول من وين؟!
خلف (مُحْسن) رجله، ثم قال بـ هدوء:
- والله ياخ اتصرف .. ده شغلك إنتا بعد ده؟!
قال له الطبيب وهو يهز رأسه في حيرة:
- طيب ممكن تديني اسم الزول التاني ده .. إمكن يعني .. والله أعلم.. ألقاهو ليك؟!
- اسمو (محجوب)؟!
سجل الطبيب اسم (محجوب) في ورقة، ثم أدخل يده في الدرج واخرج كرتاً صغيراً وناوله لـ (مُحْسن) قائلاً له:
- قابلني الأسبوع الجاي يا (مُحْسن) وإنشاء الله نصل لي حل.!
(5)
بعد ثلاثة أيام..!!
(6)
بينما كان ذلك الطبيب النفسي يراجع بعض الأوراق، سمع طرقاً خفيفاً على باب مكتبه، لملم أوراقه وقال بـ هدوء:
- أتفضل أدخل.!
دخل عليه شاب هادئ الملامح، وقور المظهر، جلس على الكرسي بجانب المكتب.
سأله الطبيب:
- مرحباً يا شاب .. أي خدمة؟!
رد عليه الشاب بعد مدة قصيرة:
- الحقيقة يا دكتور أنا بشعر بـ شعور غريب لي زي شهر كده؟!
- شعور شنو؟!
- بشعر إنو أنا ما أنا .. يعني بشعر إنو أنا زول تاني!!
هتف الطبيب:
- قلت شنو؟! .. برضو إنتا ما إنتا .. يا سبحان الله؟!
ثم نهض الطبيب من كرسيه وسأل الشاب:
- الزول التاني اسمو منو؟
صمت الشاب قليلاً ثم قال:
- اسمو (مُحْسن)؟!
لم يتمالك الطبيب نفسه وصعد برجليه على طربيزة مكتبه وسأل الشاب المندهش بصوت عالٍ:
- أها وإنت اسمك منو؟!
- اسمي (محجوب)؟!!
وفجأة انفجر الطبيب ضاحكاً .. ضحك .. وضحك .. كان يضحك ويخبط رأسه بالحائط .. صار يحدق في (محجوب) في ذهول.. ثم يضحك مرة أخرى عالياً..!!
خرج محجوب من الغرفة بـ هلع .. اختفى ولم يعرف أحداً عنه شيئاً بعد ذاك .. إلا أنه قرأ في صحف اليوم التالي أن طبيباً نفسياً مشهوراً أصيب فجأة بمرض نفسي غريب يسمى بـ (العته الذهولي)..!!!
0 التعليقات:
إرسال تعليق