(1)
عندما يتخرج طالب الطب من الجامعة بعد ستة سنوات - يسلّن الروح - يقضيها مكابدة ومعاناة بين أرتال المراجع وحفظ المقررات الكبيرة الحجم، تنتظره بعدها سنة أخرى تسمى بـ (الامتياز)، وهي الفترة التي يمكن تعريفها باجتهادي الخاص بأنها:
- السنة الفاصلة بين مذاكرة الطب في الأوراق وتطبيقه في البشر!.
فهنا يحتاج أن يطبق ما درسه، ويتعلم أكثر، ويكتسب المزيد من الخبرة والمران، وكل هذا يطبقه على المرضى بإشراف دكتور أكثر منه خبرة - يعني يتعلم وين- وبعد أن يتم إمتيازه يكون –أحياناً- قد خلّف وراءه عدداً لا بأس به من الضحايا.!
موقفنا نحن السودانيين من أطباء الامتياز موقفٌ ينحصر في أن (الأولاد ديل دايرين يتعلموا فينا ساي)، وأننا إذا كان الأمر بيدنا لن نترك طبيب امتياز يضع يده علينا، حتى وإن وقف على يمينه (أبو قراط) أبو الطب، وعلى شماله (ابن سينا) الشيخ الرئيس، وتحْدث الكثير من الطرائف عندما يري رجل كبير في السن طبيبة أو طبيب امتياز آتياً نحوه، وبعد أن يفحصه من قمة رأسه حتى أخمص قدميه يبتدره بالقول:
- يا ولدي ما في زول أكبر منك هنا؟!
(2)
لي تجربة مع أطباء الامتياز، وأذكر عندما كنت صغيراً قرر لي الطبيب جراحة في العين اليسرى لاستئصال حبة صغيرة نبتت أسفل الجفن، وفي ذلك اليوم أتيت لإجرائها، وبينما كنت في الانتظار، رأيت أحد المرضى أتت نحوه إحدى طبيبات الإمتياز لتحقنه المخدر (في عينه طبعاً)، أدخلت الحقنة ذات الإبرة الطويلة –طولها تقريباً متر – أدخلتها في عينه بمحاذاة كرة العين الزجاجية التي لو ثقبتها ربّنا يعوضو، وأفرغت فيها المخدر، انتفخت العين وصارت مثل حبة الطماطم، ولم تقف الفتاة عند هذا الحد ، فقد أحضرت كرة بلاستيكية صغيرة و(مردغت) عصرت بها العين بحركات تشبه التي يفعلها الفوال عندما يكسر الفول بزجاجة مشروب غازي فارغة، وكل هذا لتوزيع المخدر، قلت في سرّي:
- هذا الرجل .. على عينيه السلام ..!!
وبحسابات منطقية فإن الدور سيأتي علىّ لإدخال هذه الحقنة الكبيرة داخل عيني، وهنا فكرتُ جاداً في الانسحاب التكتيكي المُمرحل، لن أجازف بعيني، فإذا رجفت هذه الفتاة التي تخرجت قبل أيام وأخطأت إدخال الإبرة في عيني، حينها وبكل بساطة سأصبح أعوراً .. بامتياز!.
(3)
بينما أنا في اجترار خواطري رأيت من بعيد أربعة بنات من طبيبات الإمتياز يحملن أوراقاً وأقلاماً ويتجهن نحوي.!
- قلت: اللهم أجعله خير.!
وبعد أن وصلن بالسلامة، حيتني إحداهن:
- إزيك يا شاطر.!
رددت التحية بأحسن منها. وسألتني إحداهن:
- حاسي بشنو؟
فأشرت إلي الحبة النابتة في جفني .. وبعدها حملقن الطالبات في الحبة التي كادت أن تصبح قُبة، ثم اتخذن لهن ركناً وتكلمن حول حبتي الميمونة كلام بالانجليزي كتير خلاص، وعلى الرغم من أنني كنت صغيراً آنذاك، إلاّ أنني غضبتُ من كوني أصبحت درساً عملياً يطبق فيه طلاب الطب محاضراتهم، ومما أغضبني أكثر أنني كنت كـ الأطرش في الزفة، ما فاهم أي حاجة، ولكنني حللت الأمر، إذا كان كل هذه النقة والنضمي حول هذه الحبة الصغيرة الحمراء، فما بالك إن كانت عملية (زراعة قرنية)، أو (استبدال شبكية) –إن كانت تُستبدل- فهذه لابد أن يعملوا لها ركن نقاش بمكرفونات عديل!.
التفتتْ إلي إحداهن وسألتني:
- الحبة دي قامت ليك متين يا ولد؟!
وبعد أن أجبتها ..دارت عجلة الرطانة مرة أخرى، وهذه المرة معها تسجيل ملاحظات على الدفاتر، وهنا لعب الفأر في عبّ العبد لله، لابد أنهم بدلاً عن استئصال الحبة الصغيرة قرروا اقتلاع العين بالمرة، لأن النقاش كان فيه مغالطات مع بعضهن، وتخيلته كان على طراز:
- نقلعها.!!
- لا .. لا نخليها.!!
وبعدها ذهبن، وسمعت إحداهن تقول لزميلاتها:
- يلا نمشي للبروف!
(4)
بعد لحظات سمعت اسمي بأن أدخل غرفة العمليات، وألبسوني الزي الأخضر من رأسي وحتى أخمصي، ولست أدري لماذا كل هذا العنت من أجل حبة صغيرة لو تركوها لي لاستأصلتها لوحدي، تمددتُ على السرير، وقرأتُ كل ما أحفظ من قرآن وأحاديث وأقوال مأثورة وأناشيد دينية، وتحلقن حولي طبيبات الامتياز والدكتور الكبير (البروف)، ومررت بتجربة التخدير بسلام، وبما أنه موضعي، لذا كنت أسمع كل ما يدور، وقد تم غلق عيني السليمة، ولحكمة لا أعلمها كنت أرى المشارط بذات عيني التي من المفترض أنها مخدرة، كانت العملية بسيطة، قلب الطبيب جفني واستأصل الحبة الصغيرة وسلمها لإحدى الممرضات التي وضعتها في فتيل صغير به محلول ما لعله الجازولين، وسمعت أن العملية انتهت ومن المفترض أن أغادر، ولكن إحدى طبيبات الإمتياز قالت للبروف كلمات بمعني أنه تبقى جزء صغير من الحبة في الجفن لم يُقطع بعد!!.. والبروف جزاه الله كل خير أعطاها المشرط لتقطع هي بنفسها، وهنا دارت في رأسي الهواجس، وقلت في سري:
- الجماعة ديل قايلين نفسهم بنضفوا في أم فتفت وللا شنو ؟!
أنزلت الفتاة المشرط على عيني التي قنعت من خيراً فيها، واقتطعت ما فيه النصيب، ولكن الحمد لله انتهت العملية بسلام، وقبل أن أغادر طالبتُ بالحبة التي اقتلعوها من عيني، فهي حق من حقوقي ولن أفرط فيه، رفضوا طلبي بالإجماع، وتحت .. تحت عرفت أن طبيبات الامتياز (دايرين يذاكروا فيها)، وطنطنت بكلمات من طراز: (إن شاء الله ما تنفعكم).!
بعدها أقنعوني بالمنطق بأن هذه الحبة ستستفيد منها الأجيال من بعدي، خرجتُ من باب المستشفى وعزاءي أنني ساهمت في تقدم الطب بـ حبة.!!
0 التعليقات:
إرسال تعليق