الخميس، 7 يناير 2010

نحن نصبر على طعام واحد

(1)

في القصة المعروفة لـ (بني إسرائيل) أن الله سبحانه وتعالى استجاب لهم عندما طلبوا الطعام، فأنزل لهم لحم طير يسمى بـ (السلوى)، وبعدها أنزل لهم شراباً يشبه العسل وهو (المنّ)، وقيل أنه حلوى من أشهى أنواع الحلويات، سهلة الهضم سريعة الامتصاص في الجسم، فكانوا يأكلون ولا يحمدون، ويجحدون نعم الله الذي أكرمهم آخر كرم بـ لحم طير ومعه التحلية، وكانت هذه الوجبات تأتيهم مجاناً ولا تكلفهم أي مجهود، إنه كان طيراً يأتيهم في جماعات كبيرة من مكان ما، يبقى على الأرض حتى يمسكوا به ويذبحوه ثم يأكلوه، و(المن) اختلفت فيه التفاسير ومنها أنه كان ينزل عليهم من الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه حتى الاكتظاظ، وكانوا يواظبون على هذا (الميز) بلا انقطاع، بل إنهم لا يتناولون طعامهم تحت الشمس مباشرة، بل كانت تظلهم غمامة من هجير الصحراء، (وظللنا عليكم الغمام)، ولكن انطبق عليهم المثل: (مرمي الله ما بترفع)، فإذا بهم يتذمرون من هذه النعمة وقالوا أنهم لا يصبرون على طعام واحد، وهذا الطعام الواحد لم يكن (أم شعيفة) ولا(ملاح أم تكشو بالعصيدة)، بل كان (المن والسلوى)، وطالبوا بتغييره بطعام يزرعونه بأيديهم ويكون أمامهم طول الوقت، وكأن كل ما نزل لهم من معجزات ليست كافية لتعطيهم الثقة في استمرار رزق الله، المُهم .. أنهم طالبوا بطعام بديل وبدلاً من أن يطلبوا طلح منضود وسدر مخضود، طلبوا البصل والعدس والقثاء والأخير هذا من الفصيلة القرعية ويشبه الخيار الذي يشبه العجور، وخياراتهم البديلة هذه تدل على قصر تفكيرهم وحصره ما بين القثاء والعدس، فهي من نعم الله أيضاً، ولكنها بكل تأكيد ليست أفضل من المنّ والسلوى، ولست أدري ما الذي كان يأكله اليهود قبلها، ولكن بلا شك أن طعامهم كان مجموعة من (اللغاويس). ليس إلاّ.!

(2)

إذا تأملت المائدة السودانية، وألقيت نظرة على ثقافتنا الغذائية تجد أن نسبة كبيرة منّا - نحن المواطنين الكرام- تعتمد وتصبر في غذائها على طعام واحد، وأقرب مثال لذلك هو (الفول)، لا أعتقد أن هنالك دراسة لعدد أو نسبة متعاطي الفول في وجبتي الفطور والغداء في السودان، ولكن بلا شك فهي نسبة كبيرة، فهؤلاء يصبرون على طعام واحد، مع تغيير طريقة الإعداد فقط، فهم يغيّرون من (البوش) إلى (الغموس) ثم إلى (الساندويشات) في الحالات المستعجلة، والفول مهما اختلفت طريقة إعداده فهو النهاية طعام واحد، سواء كان بـ الزيت أو بـ غيره، وهناك بعض الفقراء ممن لا يجدون حتى سبيل الوصول إليه، ولو سمعوا بقصة بني إسرائيل هذه سيموتون غيظاً وكمداً، فهنالك من ذوي الحال الرقيق ممن لو أنزل إليهم (طائر ود أبرق)، ومعه التحلية (زلابية) بدون سكر، أعتقد أنهم لن يفارقوه إلى يوم الدين، والدليل أنه في بعض القرى يصنعون العصيدة من دقيق ذرة (الفتريتة)، ولا يجدوا ما (يملحونه) بها فـ يتصرفون و(يملحونها) بـ (النشا)، والنشا ذاتها عبارة عن عصيدة في حالة السيولة، أي أنهم يأكلون عصيدة بـ العصيدة، وهذه الوجبة تكون تقريباً كل يوم وإن تم تغييرها فلن يكون بأفضل منها كثيراً، وفي بعض القرى النائية تجد الأهالي يسيرون حياتهم وفقاً لمقتضيات البيئة، وخاصة في موضوع الوجبات هذا، فإنهم يأكلون حيثما أتفق، وليس لديهم (قشة مُرّة)، فكل (قشهم طاعم)، وقد يصلوا إلي مرحلة أن يطبخوا البرسيم، وهذه واقعة حقيقية لأسرة ضاق بها الحال في قرية ما، لم يجدوا غير براعم البرسيم التي حلت محل البامية والخُدرة، ولكنهم من المؤكد لو كان عندهم مكرونة بالبشمل أو بيتزا بالموزريلا لما اضطروا لهذا.!

(3)

إذا ذهب أي ابن مدينة إلى الريف البعيد سيجد أن هنالك بعض الأكلات المختلفة يصنعونها من مواد لا تخطر على البال، دعني أعرّفك على أكلة كدت أن أتناولها في إحدى القرى واسمها (الشَرْقَتي)، وهذا اسم الأكلة وليس القرية، وهي تتكون من عنصرين فقط (صِِغار ثمرة البطيخ) ويسمى (السَبَلي)، و(سمسم) مجروش، تقطع صغار البطيخ في حَلّة ما، ويضاف إليها السمسم المجروش ويوضع الجميع في نار هادئة، وبعد أن تصبح المكونات عجينة متماسكة تفرغ في صحن لتبرد.. وبـ الهنا والشفا.!

في قرى أخرى يطبخون مُلاحاً يسمى (التمليكة) وهو عبارة عن قش طويل تقطع أوراقه وتغلي بماء حميم وتجفف ثم تطحن، وتوضع في الحلة وبعد أن تنضج قليلاً يضاف إليها العجين حتى تتماسك، وتأكل بكسرة الفترتيتة.! أي أن فولنا هذا الذي نتذمر منه ونسميه (كل يوم معانا)؛ في أماكن أخرى يعتبر سلعة نادرة، وإذا ذهب هناك سيكون ملكاً متوجاً على الكثير من الأطعمة، ونظرية الطعام الواحد هذه لا تنطبق على الفول فقط، فـ في مدن وقرى أخرى يعتمدون كُلياً على اللحوم، وعملية ذبح خروف كل يوم أو يومين تعتبر عندهم عملية عادية.

(4)

عموماً الموضوع برمته يضيف صفة أخرى إلى صفات اليهود من الغدر والخيانة وعدم الإيفاء بالعهود وغيرها، والصفة الجديد أنهم قوم (ساذجين) وهذه الكلمة بدراجيتنا تعني (داقسين)، لأن عمليتهم هذه لا يفعلها إلاّ (داقس) فـ هنيئاً لهم الثوم والعدس.!

0 التعليقات:

إرسال تعليق