السبت، 13 مارس 2010

حوار فلسفي مع (الحكيم شيخنا) عن الفلس.. مرحباً بك في رابطة المُفلسين بقناعة..!!

(1)

سألني شيخُنا على غير العادة.. إذ أنا دائماً الذي يحاصره بالأسئلة الطوال الجِسام:

- قل لي يا بُني.. ما هي أكبر المصائب التي تصيب الشباب من أمثالكم هذه الأيام.؟!

بدون أي تفكير في عواقب الأمور قلتُ له:

- الفلسُ يا شيخ.. فليس هنالك مصيبة أكبر من أن يكون الفتى جيبه خالٍ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صلدا.. فالشاب يحب كلّ ما يبعده عن الفلس وما يقرّب إليه من قول وعمل.!

شيخنا يقول:

- لكن يا بُني ألا ترى معي أن هنالك مشاكل ومصائب أكبر تحيط بكم .. وهي أهمّ من الفلس بكثير.؟!

- يا شيخُنا .. كل المصائب مبدؤها من الفلسِ.. فهو الداهية التي تدخل على الفتى فتصفرّ منه الأناملُ.. فالشاب إذا امتلك المال حقق أحلامه، تزوج وأحصن نفسه، وأنشغل بمسئوليته عمّا سواها.. وسارع في الخيرات.. وابتعد عن مجالس السوء.. فـ الفلس والفراغ هما أكبر مصائب الشباب.. فإذا ابتعد عنهما الفتى فإنه يبتغي مرضاة الله.. ويحمد المولى على ما آته من نِعم ووفير خير.!

شيخنا:- لكن يا بني هنالك من الشباب من هم عكس ما قُلت، ما إن يجري في يدهم المال؛ حتى يفسدون في الأرض، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويرتكبون الفواحش آناء الليل وأطراف النهار.. ويهلكون الحرث والنسل.. لا يحمدون الله على نعمه، وتجدنهم أحرص الناس على الدنيا..وأبعدهم عن الآخرة.. ومُحصّلة ذلك كلّه: أن المال ما زادهم من الله إلا بُعداً.!

قلتُ له:

- إنهم قلّة يا شيخنا .. بل إنهم الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.. ولكن ما جعلهم يعطون هذا الانطباع السيئ عن الشباب الغني.. بل وعن الشباب عامة، هو أنهم القلة الأكثر وضوحاً من الأغلبية.. ولكنني متأكد من أن الشاب الصالح إذا امتلك المال صلح حاله أكثر.. واستقام على الصراط المستقيم.. أما الشباب الطالح فإنه سواء أفلس أم أغنى، أينما اتجه.. فإنه يضل سواء السبيل لا محالة.!

(2)

أطرق شيخنا لحظات ثم قال لي:

- يا بُني إذا وجدت الطريق مفتوحاً لكي تثرى وتكون من أكبر أغنياء البلاد.. فهل ستسلكه.؟!

قلت له يا شيخنا بدون تردد:

- نعم شيخنا .. لكن كيف السبيل لكي يصير المرء ثرياً ثراءً فاحشاً بدون أن يتتبع خطوات الشيطان.. ويجلب عليه غضب الله والعباد؟.. وإنني إذا امتلكت ذلك المال فسأنفق جزء كبير منه على الخيرات ومساعدة الفقراء.. ولا أريد منه سوى أن أركب سيارة رجال الأعمال الطويلة.. تلك السيارة التي عرضها شهر وطولها شهران، ولا أراها إلا في الأفلام التي تصمد في شبّاك التذاكر طويلاً، إنها سيارة –يا شيخنا- من طولها لو ركبت فيها من أم درمان.. تستطيع أن تنزل منها في السوق العربي دون أن تتحرك السيارة من مكانها مترا واحدا..!

حملق فيّ شيخنا بتعجب وتمتم بكلمات من نوع:

- سبحان الله منظم الأكوان.!!

وأظنه أضاف عليها:

- ها أنذا أرى عليك لمحة من الجهل.!

ثم استدرك فقال:

- أتقصد تلك السيارة البيضاء الطويلة الهيكل.. ذات الزجاج الداكن التي لا يَرى خارجها ما يدور داخلها.!؟

- أصبت يا شيخنا.. إنها فسيحة من الداخل.. فيها صالة واسعة تفتح عليها غرفتين، وأمام الصالة حديقة بها أشجار كثيفة، وعندما يكون الطقس بالخارج حار جاف صيفاً، تجده بالداخل شتاءً.. باردٌ وربما ممطر.. أما زجاجها فأريده داكنا من غير سوء.!

هزّ شيخنا رأسه في حيرة ثم قال:

- أخشى عليك يا بُني أن تركبها وأنت ظالمٌ لنفسك.. فيرسل الله عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيدا زلقا.. أو يصيبها إعصارٌ فيه نارٌ وشواظٌ ونحاسٌ.. فيصير المال عليك نقمة لا نعمة.؟!

صحتُ باحتجاج:

- ألا يمكن يا شيخنا أن يكون المرء ثرياً وتقياً في نفس الوقت..؟! وأن يؤتي المال على حُبّه ذوي القُربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب؟!.. لماذا يا شيخُنا يربط الناس دائماً بين الثراء وبين عذاب الجحيم؟! لماذا يضعون الذي لم يؤت سعة من المال في مقام التقيّ الأمين مُطلقاً؟! فـ صورة الفقير عند الكل هو الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويسارع في الخيرات، أما الغني.. دوماً يرونه الناس ظلوماً جهولاً.. ويتمنون أن يؤته الله ضعفين من العذاب، ويُرمَى عليه بحجارة من سجيل.. فتجعله كعصف مأكول.!! فهنالك –يا شيخنا- من الفقراء من هُم أشدّ طرّا وارتكاباً للمعاصي، ومن الأغنياء من يقفون مع المحتاج في السراء والضراء وحين البأس.!!

رمقني شيخنا باندهاش ثم قال:

- أراك قد أصابتك موجة من الفلسفة يا بُني.؟!

حمحمتُ في اعتذار:

- معذرة يا شيخنا .. فهذا حال من يجالس الحكماء.. ولكن قُل لي لماذا دائماً يربط الناس بين صاحب المال وسوء المنقلب.؟!

ردّ شيخنا:

- كما قلتَ يا بُني إنها نظرية الأقلية الأكثر وضوحاً.. هُم من أعطى الناس هذا الانطباع السيئ عن الأغنياء.. ولكن في النهاية.. لو أدى كل غني ما عليه من فروض، وأنفق المال على حبّه، فلن تجد على الأرض فقيراً.. ولكن هذا من نوع الخطأ الذي لا يستطيع إصلاحه إلا الكل في آن واحد.. وبما أن هذا مستحيل في هذا الزمان الذي صارت فيه القلوب منطفئة من الداخل.. لذا سيستمر الحال على ما هو عليه حتى إشعار آخر.!

قلتُ لشيخنا:

- ملخص القول يا شيخ.؟!

قال شيخنا:

- يا بُني .. أنك لا تدري إن أصبحت غنياً سيفسدك المال أم سيصلحك؟.. فـ البعض لا تصلح أموره إلا مع الفلس.. فـ إن أصبح غنياً فسد، ولو أراد الله به خيراً لأغناه، فـ الفلس له فوائد يا بني لن تدركها إلا بعد أن تصل لمثل سنّي هذه، فالمال الكثير مسئولية يا بني.. وتتبعه مصائب كبيرة عليك، كونك في زمرة المفلسين فهذا لا يقلل من شأنك شيئاً، إذا كنت مُفلساً بقناعة فـ أنت أغنى الأغنياء، وإذا رمتَ أن تحيا سليماً من الأذى.. وحظّك موفور وعرضك صيّن، فقط أنظر لمن هو أفلس منك.. ولا تنظر لمن هو أغنى منك، ومهما كنتَ مُفلساً ستجد من هو أفلس منك بمراحل بعيدة، القناعة كنز لا ينفد يا بني.. كُن قنوعاً بما أنت فيه، وستنام هادئ البال مرتاح الضمير.!

(3)

خرجتُ من مجلس الحكيم شيخنا وأنا أسترجع كلماته واحدة.. واحدة.. وأكثر عبارة التصقت بذهني هي:

- إذا كنت مُفلسا بقناعة فأنت أغنى الأغنياء.!

في الماضي كنتُ مُفلساً فقط.. ولكن بعد جلستي مع شيخنا حدثت بعض التطورات.. ومن هذه اللحظة.. أنني سأنتقل من خانة (مفلس فقط) .. إلى (مُفلس بقناعة).. وهذه خطوة لا بأس بها.. لا أدري ماذا كان يقصد شيخنا بمصطلح (الفلس بقناعة)، هل يعني به أن تقتنع أنك مفلس؟.. أم تفلس وتقتنع بأنك غني؟.. فالفلاسفة لا يعطونك الكلام مطبوخاً جاهزاً.. ولكن أياً كان مقصده.. سأجرّبه.. وبعدها سأفكّر جادا في تكوين رابطة جديدة وسأسميها:

- (رابطة المُفلّسين بقناعة).!!