السبت، 27 فبراير 2010

الشينة والمنْكُورة .. في رُطانة الفاتُورة..!!

(1)

أحياناً أسألُ نفسي سؤالاً أوتوماتيكياً بَحْتاً:

- هل نحن عرب أم إنجليز.؟!!

الحقيقة لستُ متأكداً تماماً من أننا عرب، فهذه مسألة اختلف حولها العلماء كثيراً، ولم يتوصلوا لحل قاطع بشأنها حتى الآن، فمنهم من قال أننا عرب ممزوجة بدم الزنوج الحار، ومنهم من قال أننا أفارقة مستعربون، ومنهم من يرى أننا عرباً متأفرقون، إلاّ أنني متأكدٌ تماماً من أننا لسنا إنجليز، ولا توجد بيننا وبين الإنجليز أي صلة قرابة، لهم لغته الخاصة بهم، ولنا لغتنا، إذ أن اللغة العربية هي لغتنا الأم كما تعلمون، وهي لغة الدواوين الحكومية في بلادنا، وهي عندنا هي اللغة التي يخاطب بها الإنسان أخاه الإنسان.

السبب في إثارة هذا السؤال هو عدة مواقف حدثت للعبد لله في بداية دخول (عدادات الدفع المقدم)، التي سمّاها جدّي:

- عدادات الرماد المسجّم.!

وذلك عندما لاحظ أنها تأكل الكهرباء كما يأكل الحمار العلف، أنا على عكس جدّي أحبها تماماً.. ولم أكن أشعر بودّ حقيقي تجاه العداد القديم، ويسعدني أن هذه العدادات الجديدة قطعت الطريق على (أصحاب الجبّادات والقنايات الطويلة)، الذين يحبون أن يتناولوا تيّارهم الكهربائي من الخزّان مباشرة، دون المرور بعدّاد الهيئة الكريم، الاسم الحركي لهذه العدادات هو (الجمرة الخبيثة)، التي لم أوفق في شرح تقنيتها لـ جدّي بتاتاً، وأذكر أنه سألني ذات يوم سؤالا مفاده:

- إنت يا ولد.. أنا داير أفهم .. كيف يعني تدخّل أرقام تجيك كهربا.. والله ده شيء عجيب.!!

هززتُ رأسي بـ حيرة وقلتُ له:

- والله يا حاج الله أعلم .. إلا العلم ده يعني ما خلاّ حاجة.!

جدي دائما ما يفحمني بهذه الأسئلة الفلسفية العميقة، وذات مرة سألني:

- يا ولد يا أسامة .. إنت الموبايل ده بشتغل كيف؟.. وصوت البني آدم ده البمشيهو في الهوا شنو .. لمن كمان يدخل في الموبايل؟! والله حكمتو بالغة.!!

إجابتي بالطبع كسابقتها:

- والله يا حاج الله أعلم .. إلا العلم ده يعني ما خلا حاجة.!

أحياناً أضيف عليها:

- يا جدي نحنا ديل بنعرف نسُوق بس.. إلا طريقة شغلو دي الله ريحنا منها .. وسخّر لنا الخواجات الكفرة الفجرة .. ليفهموها بدلا عنّا.!

(2)

أول يوم لي في التعامل مع تكنولوجيا الدفع المقدم.. التي جعلت مكواة الكهرباء رجسٌ من عمل الشيطان فاجتبوه، ذهبتُ إلى منفذ بيع الكهرباء، اشتريتُ كمية الكهرباء التي طلبتها، فأعطوني ورقة صغيرة مكتظة بالرموز الإنجليزية، وفهمها يحتاج إلى مواطن مُذاكر إنجليزي كويس، صحيح أن أهم ما فيها هي الأرقام المكتوبة بالأسفل بخط عريض، وهي التي تدخلها إلى العداد، فتأتيك الكهرباء من حيث لا تدري، وأنا متأكد تماماً، أنك من حيث فهم طريقة عملها كـ جدّي تماماً، تعرف فقط أن الرقم يدخل العداد ويخرج الكهرباء، هنالك باقي كلام في أعلى الفاتورة، مكتوب بالإنجليزية، وإذا حاولت قراءته، قد يتسبب لك بـ(إحراج فكري) إذا كنت ممن يتقنون العربية فقط.!

السؤال الرئيسي هنا:

- لماذا لا تكون الفاتورة مكتوبة بالعربي الفصيح.؟!

الحقيقة أن جدّي سألني نفس السؤال، وأذكر ذات مرة أمسك الفاتورة بيده في دهشة، وهو يتأمل رموزها الغريبة عليه، فهو يجيد قراءة المكتوب باللغة العربية، ويجهل ما كُتب بغيرها، قال لي في حيرة من أمره:

- يا ولد.. الفاتورة دي ما لها ما مكتوبة بي العربي؟!

كانت إجابتي:

- والله يا جدي الله أعلم .. الفواتير دي كلها بالانجليزي .. الظاهر الناس ديل قايلين قراية فواتير الانجليزي مفيدة للصحة.. ومُدرّة للبول.. أو أنها تخفّض الكولسترول في الدم.!

(3)

أنا شخصياً ليست لدي مشكلة في أن تكون الفاتورة بالإنجليزية، وإذا لاحظت من البداية أن جدي هو الذي لديه مشكلة كبيرة تجاه هذا الأمر، فهو من خلال فلسفته العميقة، وكمثال للمواطن العادي، يرى أن اللغة الإنجليزية ليست لغتنا الأم، وهي عندنا تعتبر لغة ثانية، ويرى أيضاً أنه لا داع للرطانة عندما يتعلق الأمر بكل المواطنين، لذا من المفترض أن تكون على الأقل فواتيرنا بالعربي، خاصة وأن هيئة مثل الكهرباء، يتعامل معها آلاف الناس كل يوم، وهؤلاء الناس ليسوا كلهم مترجمين فوريين، ومنهم من لا يفهم في لغة الإنجليز أي شيء، لذا فهم زبائن كرام بررة، ويستحقون أن يعرفوا ما هو مكتوب على فواتيرهم، فالغالبية منهم الآن يعرفون فقط الرقم المكتوب بالأسفل، الرقم الذي يدخلونه في العداد وليس سواه.!

لا أعتقد أن المختصين هناك يغلبهم تعريب جهاز حساب الفواتير، (طبعاً الكلام من هنا يتبع للعبد لله .. إذا لاحظت أن كلام جدي انتهى في الفقرة السابقة)، فنحن نحتاج لشيء يشعرنا بانتمائنا للغتنا العربية، التي صار الكثيرون من حديثي (الفلهمة) يتبرءون منها، وفي بعض المجتمعات أحياناً أشعر أنني الوحيد الذي يتكلم عربي، بعضهم يتكلم معي ويدخل في الجملة أربع كلمات إنجليزية، هذا إذا كانت الجملة من خمس كلمات.!

ليست لديّ مشكلة مع أي لغة أجنبية، وبالعكس أحبّ اللغة الإنجليزية جداً، وأعتقد أن تعلُّمها قد صار فرض عين على كل فرد مستوطن، وأنا أتحيّن كافة الفرص لأنهل منها أكثر، فهي قد صارت لغة العلم والمعرفة في هذا العصر، ولكنني في ذات الوقت، عندما أتكلم مع بني جلدتي لا أستخدم كلمة إنجليزية بتاتاً، خاصة إذا كان لديها مقابل في اللغة العربية.!

وفي رأيي أن من يكثر من الكلام بالإنجليزية أمام الناس؛ فهو إما يريد أن يثبت أنه راق ومتحضر، أو يريد أن يثبت لمن يتكلم معهم أنهم حمير، أو يريد أن يثبت الاثنين معاً.!

فلكل مقام مقال، والمقام هنا مقام عربي وليس إنجليزي، وقد كلّفني جدّي أن أخطر ناس الكهرباء حتى يغيروا لغة فاتورة الكهرباء من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية.. اللهم هل بلغت؟! .. اللهم فاشهد.!