صحيح أن الخريف هو شهر الخير والبركة، وفيه يزرع الناس ليحصدوا خيرات البلاد، ولكنه بالنسبة لي لا يحمل أي ذكريات طيبة، والسبب في ذلك (الجنادب)، ليست لدي مشكلة مع خريف بلا جنادب، وأرحب به في أي وقت، ولكن يبدو أن هذا مستحيل، كما أنه من الاستحالة أن تسمع بصيف بلا سخانة.
في الخريف تجدني قبل النوم أهدر الكثير من الزمن في إبادتها، ولا أهدأ حتى أفرغ من قتل آخر جندب في الغرفة، أنتم تعلمون أن قتل الجنادب ليس بالنشاط المحبب ولكن ما باليد حيلة، حيث أضطر يومياً لخوض حرب ضروس ضد الجنادب، أمسك بـ شبشبي الأخضر الثقيل، وأهوي به على الجنادب التعيسة، أضربها بلا هوادة وكأنني عنترة العبسي في حومة الوغى وهو يردي الأعداء، ومرات تأخذني الحماسة وأكاد أردد بيت الشعر الذي قاله في عبلة والذي يقول:
لوودت تقبيل السيوف لأنها * لمعت كبارق ثغرك المتبسم
بالطبع لا أفكر في تقبيل الجنادب ولا حتى الشبشب، ما من عاقل يفعل هذا على حسب علمي.!
(2)
سبب عدائي للجنادب أنها حشرات غبية، معظم الحشرات عندما تطير تحدد بالضبط أين تريد الهبوط، عدا الجندب، أنه يقفز قفزة متهورة ولكنه لا يحدد بالضبط إحداثيات هبوطه المفترض، يطير بسرعة ويهبط بذات السرعة، ولا يشغله بتاتاً موضوع أين يستقر، ولا يهمه كثيراً إن نزل في مسطّح مائي أو نار مستعرة، وعادة ما يهوي على ظهرك أو وجهك، مما يجعل فتح الفم في الخريف يعتبر مجازفة غير مأمونة العواقب، فـ إذا تثاءبت ونسيت إغلاقه، فلا تستبعد أن يدخله أحد الجنادب الضالة.!
الجندب أحياناً له طبع الذبابة، كباية الشاي قبل أن تمدها إلى فمك تفاجأ بأنه قد نط فيها جندب كبير لم يجد مكاناً ليُمارس فيه رياضة السباحة الحرة إلاّ في كوبك، أنا أعرف أنه إذا سقطت ذبابة في كوب الشاي فما عليك إلا تغطسها كلها، لأن أحدى جناحيها به جراثيم والآخر به المضاد لها، ولكن لا أعرف بالضبط ما الذي تحمله أجنحة الجنادب، وأنا شخصياً لن أجازف وأستخدم معها أسلوب الذبابة الذي هو ذاته لا استخدمه، ماذا إذا كان الجندب يحمل في جناحه اليمين فيروس (الآيبولا) وفي جناحه اليسار جرثومة الطاعون؟ ما أدراني؟ لذا عادة ما استخدام أسهل فتوى متاحة لدي، وهي سكب الشاي بـ جندبه وأسأل الله أن يخلف لي خير منه.!
(3)
يمكن أن تذهب الجنادب إلى مدى أبعد من مضايقة البشر والدخول تحت أقمصتهم، بإمكانها أن تزاحم المواطنين في معايشهم، وأذكر في الخريف السابق أن جاري العزيز وضع صحن عشائه -المكوّن من الأرز باللبن- على الشباك ليبرد قليلاً، ولست أدري كيف فات عليه أن وضع العشاء مكشوفاً في الخريف يعتبر حماقة كبيرة لأنه بعد دقائق سيمتلئ بجميع الحشرات، من مفصليات الأرجل حتى غشائيات الأجنحة، ولكن هذا الرجل لم تجتمع على عشائه الحشرات الصغيرة أبدا، لأنها لم تجد الزمن الكافي لتفعل، لأنه ما إن أعطى الصحن ظهره حتى تكالبت عليه الجنادب التي أتت من كل لمبة وشق عميق، وشاركته هذه الوليمة، بل قضت عليها تماماً لأنه عندما حضر، وجد أن عشائه قد تعشت به الجنادب، وقد عرف ولأول مرة في حياته أن الجنادب تحب أكل الأرز باللبن.!
وأذكر كذلك أن أحد أصدقائنا في مناسبة ما كان مندمجاً وفي حالة طرب مع صوت الفنان، فدخل عليه جندب داخل بنطلونه على حين غِرّة، وبهدله وسط الجماهير بهدلة شنيعة، فقبض عليه بصعوبة، وخاطبه بصيغة العاقل المكلّف وهو يحملق فيه بغيظ مرير:
- أصبر لي يا ابن الكلب لمن نصل البيت!!.
واحتفظ بالجندب المندهش في جيبه، وبعد وصوله البيت أخرجه، وأدار الموتر الذي يرفع المياه إلى الصهريج، وأدخل جندبه في فتحة المروحة التي قطعته إرباً إرباً وجعلت أجنحته تتطاير في الهواء في منظر بهيج .. ويا له من انتقام يصلح أن يدخل به موسوعة غينيس تحت عنوان: (الطرق الوجيزة في إعدام الجنادب التعيسة)!!
(4)
أذكر في الخريف السابق شدّ انتباهي جندباً كبيراً يختلف عن بقية إخوانه بأنه عريض المنكبين، ذو بأس وله شراشف طويلة، قررت القبض عليه حياً أو ميتاً لأدرسه بهدوء وأقوّى فيه خبراتي في عالم اللافقاريات، قفز من أمامي ودخل في شق ما، رُحت أبحث عنه بذمة ودقة لا تتوفر حتى لدي موظف جديد في جمارك المطار، اضطررت لأن أزحف ورائه تحت السرير، لا أذكر أن كُتُب التاريخ قد أوردت من يبحث عن جندب بكل هذه الحماسة، والحمد لله خرج لوحده من الشق ولكن سعادتي لم تدم كثيراً إذ نطّت عليه ضفدعة لا أدري من أين أتت وابتلعته وتقافزت مبتعدة، أفسدت الضفدعة مخططي ولكن الدرس المفيد الذي خرجت به أن الضفادع من الأعداء الطبيعيين لـ الجنادب، وأنها تأكلها حيثما جمعهما القدر، بالطبع قمت بجلب ضفدعة أخرى، ولا تسألني من أين، فـ بقربنا خور من الممكن أن تجد فيه بكل سهولة تمساحاً من فصيلة (الكركديل المعيني) .. واصل يا زول ما تركز في التمساح ده كتير، وهذا الخور هو الذي يصدّر لنا الضفادع بكل سحناتها.
كانت ضفدعتي خضراء بهيجة اللون، ولولا أن مزاجك ليس ملائماً للتغزل في جمال البرمائيات، لزدّتك من وصفها أبياتاً من الشعر، وما أسعدني فيها أنها كانت تؤدي مهمتها -في أكل الجنادب- على أكمل وجه.!
(5)
سيأتي الخريف .. وستأتي الجنادب، أنا متأكد تماماً من هذا الأمر، وبناءاً على ما سبق سأعطيك نصائح قيمة لا تجهلها أرجوك:
- إذا كان عشائك الأرز بـ اللبن لا تضعه في الشباك ليبرد، لأن الجنادب كما اتضح مغرمة بهذه الأكلة.!
- إذا كنت ذاهباً إلى مناسبة تأكد أولاً من أن مروحة الموتور تعمل بكفاءة، لأنها أداة كاسحة في إبادة الجنادب، وإذا لم يكن لديك موتوراً فقد حان الوقت لشرائه لأنه ذو نفع وفائدة، خصوصاً للجنادب التي تدخل في أمكان ليس من المحبذ تواجد الجنادب فيها.!
- حاول تربية مائة ضفدعة بهيجة خضراء اللون، لأنها -حسب تجربتي- سلاح فتاك ضد الجنادب.!
- والأهم من ذلك كله أسعى لامتلاك شبشب أخضر ثقيل، أنا متأكد إنه سينفعك في يوم كريهة وسداد ثغر.!
0 التعليقات:
إرسال تعليق