(1)
عبد المنعم وعثمان وحسن وطارق، أربعة شباب يسكنون في بيت عزابة بأحد أحياء العاصمة الطرفية، كلهم من حلة واحدة، شدوا رحالهم من هناك أملاً في الحصول على فرصة عمل في العاصمة، والحقيقة كان واحداً منهم يعول كل البقية التي لا زالت على قيد العطالة، وكانوا كسالى إلى حد بعيد، بيتهم من الداخل يبدو وكأنه قد تصارع فيه اثنان من أبطال المصارعة الحرة، علاوة على ذلك تجد بعض كبابي الشاي قد التصق في قعرها باقي شاي باللبن فصار صلباً حتى أنه يحتاج إلى حامض نتريك مركز لإذابته، وصحن آخر به بقية من زبادي قضى ثلاثة ليال حسوماً حتى تخمر وتصاعدت منه بعض الفقاقيع مع شيء آخر لعله (غاز الأعصاب)، وتحت أحد السراير يقبع صحن كبير يخرج منه خيط طويل من النمل يحمل طعامه من بواقي فتة فول لها أسبوع، وإذا تتبعت خط سير النمل لتعرف بيته ستجد نفسك في بيت الجيران الثالث، وهناك تفاصيل أخرى، مثل مرتبة خرجت أحشائها من تحت سرير تدلت حباله، وطشت به ملابس (مبلولة) منذ خمسة أيام، باختصار منظرهم من الداخل عبارة عن لوحة ناطقة بـ (البشتنة) التي إختلطت معها الكسل بالعطالة.
(2)
عثمان هو كفيل الثلاثة الباقين، حيث كان يعمل في إحدى محلات المرطبات، يخرج من الصباح الباكر، ويعود مع اقتراب منتصف الليل، هو من يدفع الإيجار، وفاتورة الكهرباء والمياه والنفايات، بل ويتكفل لهم بالوجبات و(حق التمباك)، ولم يكن لديه أي زمن فائض ليغسل الكبابي أو (يحك) ما التصق في قعر حلة (القطر قام) التي تحتاج إلى (حجر نار) و(أجنة وشاكوش) لتنظيفها من بقايا الدهون والبصلة المحترقة، كان يأتي مرهقاً وتعباً من وقفته طوال اليوم خلف حافظات عصير العرديب والجوافة والبرتقال ليروي الجماهير العطشى، وعندما يصل يجدهم قد احتلوا جميع السراير فينام على الأرض، ويصحو باكراً للذهاب للعمل تاركاً إياهم في نومهم، فهم لا يستيقظون إلاّ بعد أن تلسعهم شمس الظهيرة الحارقة.
(3)
كل ما سبق لم يكن يغضب عثمان أو يضايقه، فقد تحمل كسلهم وتصرفاتهم العجيبة واستهلاكهم لموارده وتجفيف منابع جيبه، ولكن أكثر ما يغيظه هو (المعجون)..! نعم معجون الأسنان (الواحد ده) كان يأتي لهم بصباع معجون من الحجم الأسري، حيث يكفي عائلة كاملة لمدة شهر، فكانوا يقضون عليه في ثلاثة أيام فقط..! ففي اليوم الرابع يأتي ويجد أن المعجون قد انتهى، بل وتم عصرِه ومصرِه حتى التف على نفسه فصار كصافرة حكم في إحدى مباريات القمة.
(4)
عثمان شَغَله موضوع المعجون، فطلب إجازة خاصة ليوم كامل حتى يناقش مع رفقاءه العزابة مشكلة هذا المعجون، ففي ذلك اليوم اجتمع بهم في (سباتة) حوار وقال:
- يا جماعة .. أنا الليلة اخدت إجازة مخصوص عشان موضوع المعجون ده.. عليكم الله هسع سنونكم دي كان سنون فيل عديل تكمل معجون قدر ده؟!
يصمت قليلا ويجر نفسه ثم يواصل:
- بعدين أنا داير أعرف منو البستهلك المعجون ده كلو … لو بتتسوكوا بي مكانس ما مفروض المعجون ده ينتهي في تلاتة أيام.!!!
تكلم طارق بلا مبالاة وهو يداعب أسنانه بعود كبريت:
- هسع عليك الله مضيع زمنا عشان معجون أسنان.. أنا كنت قايلك دايرنا في موضوع مِهم!!.
استلم منه عبد المنعم مقود الحديث وهو ممسكاً بحزمة أوراق كوتشينة بيده اليسرى فقال:
- وبعدين قطعت لينا عشرة الكوشتينة عشان معجونك ده.. والله إنت ما عندك أي موضوع.!!
وهب حسن واقفاً وهو يقول بحدة:
- وانحنا عشان ما شغالين تقوم تستفزنا بي سبب معجون.!؟
أجابهم عثمان بنفاذ صبر:
- شوفوا يا جماعة .. خلونا من الكلام الما بودي ولا بجيب ده .. أنا داير أضع أسس وقواعد لاستهلاك المعجون في البيت ده، وكان ما عاجبكم أي واحد يجيب معجونو براهو.
أداروا الأمر في رؤوسهم، فكان لزاماً عليهم أن يوافقوا، فحكاية (أي واحد يجيب معجونو براهو دي صعبة عليهم)، قطع عبد المنعم حبل الصمت قائلاً:
- أها يا زول قول كلامك .. نحنا موافقين على أي قواعد.
فتح عثمان كيس بجانبه وأخرج منه دفتر كبير وسلمه لـ عبد المنعم وقال له:
- أول تبادي أنا عينتك (مدير المعجون) .. شايف الدفتر ده مسطر جاهز .. أي زول يتسوك تعمل قدامو شختة.
قال عبد المنعم بغيظ:
- طيب كان واحد عصر أكتر من الكمية المقرر أعرفو كيف..!؟
أجاب عثمان:
- عشان كده أنا جبت الجهاز ده…
أدخل يده في نفس الكيس وأخرج منه ميزان صغير من النوع الذي توزن به (الباسطة) لديه شاشة رقمية تظهر عليها الأوزان بالجرامات، وأضاف قائلاً:
- بعد أي واحد يسلمك المعجون تقوم توزنو عشان تعرفو استهلاكو كم جرام.
ثم أردف في جدية:
- وبعدين في قاعدة أساسية ..أي زول وكت يجي يشيل حصتو من المعجون لازم يكون معاهو شاهد عيان يمضى على الدفتر وكان ما بعرف يبصم، عشان ما تحصل اختلاسات ..وكده.
كانوا ينظرون إليه بذهول وهو يواصل حديثه:
- والشرط الأساسي في الكلام الفات ده كلو لازم المعجون يحصل نهاية الشهر.
ثم إلتفت إليهم وقال:
- أها يا جماعة موافقين .
تلفتوا نحو بعضهم في اندهاش وقالوا بصوت واحد:
- موافقييين!
أدخل عثمان يده في ذات الكيس وأخرج صباع معجون كبير وناوله لـ (مدير المعجون) وقال له:
- نبدأ بالصباع ده .. وننسى الماضى.
انفض الاجتماع ونهض عثمان من مكانه وهو يحس أنه أنجز عملاً عظيماً وحسم موضوعاً كان يشغل باله كثيراً.
(5)
استيقظ عثمان في الصباح الباكر كعادته، ولدهشته الكبيرة لم يجد ولا واحداً من رفقاءه العزابة، بحث عنهم في البيت كله، فلم يجدهم، ولكنه وجد رسالة معلقة في الباب مكتوباً عليها:
0 التعليقات:
إرسال تعليق