نَصْب صيوان العزاء في السودان يُعتبر ظاهرة اجتماعية حميدة، إذ أنها تُمكّن الناس من الوقوف بجانب أهل المرحوم والتخفيف عنهم ومواساتهم في مصابهم الجللْ، والمساعدة تتلخص في مساعدة معنوية، أي أنه من الجميل أن تجد من يقف بجوارك عندما تحل بك المصائب، ومساعدة مادية، حيث أن البعض يحرص على تسجيل اسمه في (الكشف) وأمامه رقماً يقع في خانة الآحاد غالباً، كما أن هنالك مساعدة رأسية تتمثل في أعمدة الطعام المحمولة على الأيدي، ومساعدة أفقية وهي صواني الطعام المحمولة على الأكتاف.!
ظاهرة سرادق العزاء لديها كذلك بعض السلبيات التي منها إنهاك القوى الاقتصادية لأهل الميت التي تنبع من كثرة الصواني الخارجة وقلة الأسماء المكتوبة في كراس (الكشف)، مما تورّطهم في ديون طويلة الأمد، قد تدخلهم في مرحلة (الـ ميتة وخراب الديار).!
(2)
أكثر ما يكون سبباً للإغاظة هو بعض التصرفات العجيبة التي تبدر من كليلي الإحساس من بعض الجالسين في صيوان العزاء، البعض منهم إذا نظرتَ إليهم من قريب، قد تقرر أنهم أتوا لأي شيء آخر عدا التعزية في الميّت أو مواساة أهل المرحوم، سأنقل إليك بعض المناظر من داخل الصيوان.
في صيوان العزاء تجد البعض يفعلون أشياء كثيرة، ليس من بينها شيء واحد ينفع الميت ولا حتى أهله، حيث ترتفع أصوات نقاش من هنا، وتنطلق أصوات حلائف من هناك، وبالقرب منك قد تجد من يُكثر القسم بسبب وبلا سبب، ويحلف بالبيت الذي طاف حوله رجالٌ بنوه من قريش وجُرهم، وكل هذا في موضوع لا يستحق حتى إدعاء الحكمة بأثر رجعي.!
هنا كوم مجتمعٌ على أحد الأركان يتناقش في أمور السياسة، ثم يعرج على الرياضة، ويرجع ليتحدث عن الفن، إذا جلستَ معهم ستجد من بينهم من يعتقد نفسه يفهم في سياسة الدولة خيرا من أي سياسي محترم، وفي نفس الوقت لديه حلول اقتصادية لم يتوصل إليها صندوق النقد الدولي بعد، ولو تم إنزالها في أرض الواقع لصارت الحياة باسمة أكثر من اللازم، كما أن من بينهم ناقد سينمائي، وفي نفس الوقت يفهم في كرة القدم أفضل من مدرب منتخب برشلونة، كما أنه خبير في الانشطار النووي وتركيبة وقود الصواريخ لو لزم الأمر.!
(3)
إذا سألتْ أي عاقل عن مكان لا يُستحبّ أن يضحك فيه أحد، قد يجيبك إجابات عديدة لا شك أن من بينها سيكون صيوان العزاء، تجد في الصيوان من يضحك بملء شدقيه وكأنه قد بشّروه بالجنة، وحتى الضحكات نفسها يمكن أن تصنفها لعدة أنواع، منها ضحكة على الطراز:
- نياهههاههها .. نياهههاههها (!!)
وحسب معلوماتي البسيطة في علم النفس أعتقد أن هذه ضحكة رجل مستهتر أضحكه رجل أحمق، مع احتمال وارد أنه يضحك على سبيل رياضة الفكين استعداداً لمعركة الغداء، والله أعلم.!
وتجد منهم من يعتمر قلنسوته البيضاء ويجلس على الطنافس كـ(هارون الرشيد) بين أكوام اللحوم ويضحك ضحكة بصوت يكفي لاختراق حاجز الضوء نفسه، وغالباً ما تكون ضحكته من النوع:
- هاااااااع .. هااااااااااااع (!!)
مثل هذا الرجل لابد أن المختصين بدراسة علم النفس سيجدون لوصفه اسماً لاتينياً مكوناً من عشرين حرفاً على الأقل.!
لست أدري لماذا يضحك الناس في صيوان العزاء وهو الذي اسمه (بيت البكا) حسبما أذكر، لا أحد يطالب الجميع أن يصطنعوا الحزن والأسف العميق، ولكن بعض الرزانة قد تكون محببة لأهل الميت، والمُحزن أنك تجد البعض يضحكون وهم يحفرون في قبر ذات المرحوم، وقد شاهدتُ هذا الموقف مرات عديدة في المقابر، حيث يصدر من الشباب بالذات، ففي كل حي يوجد شبّان أشاوس متمرسون على حفر القبور، تجد الواحد منهم منهمكاً في حفر (ود اللحد)، يغرف التراب وهو سعيداً كـ ثعبان فرغ من التهام فأر صحراوي، أو كـ طفل نسيه أبواه في مخزن حلوى، أو أي سعادة قريبة من ذهنك، مع أن المكان ليس مناسباً حتى للتفكير في التبسّم، بل وقد تجده في هذه اللحظة الكئيبة يدندن بإحدى أغاني السيرة.!
في الماضي كانت مجرد رؤية القبور تُعتبر موعظة تجعل المسلم يتذكر الآخرة ويكثر من الأعمال الصالحات استعداداً ليوم الرحيل، ولكن هذه الأيام أعتقد أن حفرها ذاته لم يعد كذلك، وهذه ليست بالبشارة الطيبة على كل حال.!
(4)
أذكر قبل عدة سنوات مضت، كان الناس في صيوان العزاء يتقاسمون فيما بينهم مصحفاً مجزئاً ويختمون القرآن في اليوم أكثر من مرة، كانوا يرفعون أياديهم مدة مناسبة يقرئون فيها الفاتحة لروح الميت ويدعون له بالثبات أمام سؤال الملكين (منكير ونكير)، أما هذه الأيام قد تُلاحظ أن عصر السرعة قد دخل حتى في (شيل الفاتحة)، ترى الناس يرفعون أياديهم لفترة لا تسمح لأحدهم بقراءة دعاء من كلمتين، أما المصاحف فقد اختفت وحلّت مكانها الصحف والمناقشات والجدل، بحيث تحوّل الصيوان إلى نادٍ مصغّر تُناقش فيه الأمور الرياضية والسياسية والثقافية.!
وأذكر أيضاً أن الناس كانوا يذكرون مآثر وحسنات الميت، مثل أنه كان كثير رماد القِدْر، وأنه كان فيضاً ذو سجالٍ غزيرةٍ ينال الأعادي نفعها والأقاربُ، وما كان وقّافاً إذا الخيل أحجمت، وما كان مبطاناً إذا ما تجرّدا، وأنه كان سيداً في الحي جحجاح، أما هذه الأيام منهم من يغتاب الميّت وهو حتى لم يبرد في قبره بعد، قد تجد أحدهم وهو في صيوان العزاء يهمس لآخر في أذنه بأن المرحوم –الله يرحمو- كان متغطرساً وأحمقاً ولن تفتقد البشرية بموته شيء.!
(5)
نسأل الله أن يتغمد موتى المسلمين برحمته وأن يرحمنا إذا عُدنا لما عادوا إليه، وأن يحسن خاتمتنا انه قادر على كل شيء. آآآمين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق