سألت صديقي الفيلسوف (شيخنا) قائلاً:
- يا (شيخُنا) .. ما رأيك في مُدراءِ هذا الزمان؟
نظر إلىّ (شيخُنا) نظرةً لا تنبُع إلاّ من حكيم خبِر الدنيا وأختصر كل ما فيها في بضع عبارات، ثم كان مُتّكئاً فجلس وقال لي:
- اعْلم يا بنيّ أن مُدراء هذا الزمان ثلاثة، مدير يشتغل بصغائر الأمور التي يعتقد أنها تقوده إلى عظائمها، ومدير ينشغل بالتخطيط لـ عظائم الأمور دون أن يبدأ بصغائرها التي تقود إلى عظائمها، ومدير يُقدّر الأمور حق قدرها فـ لا يُقل ولا يشطط، وهؤلاء قليل.!
ثم أردف:
- أتمنى أن تكون قد فهمتني يا بُنيّ؟
- فهمتك يا (شيخنا) .. فهمتك.!
- حسنٌ .. بـ أيّ مدير تريد أن تبدأ؟
- فـ لنبدأ بـ المدير الذي يشتغل بـ صغائر الأمور التي يعتقد أنها تقود إلى العظائم.
قال (شيخُنا):
- إذن لابد أن أقص عليك حكاية المدير و(الكُبّاية).!
- أحك .. وكلّي آذان صاغية يا (شيخُنا).!
(2)
قال شيخُنا:
- يُحكى أنّ في إحدى المؤسسات التي تخدم مصالح العباد، كان هنالك مدير يُسَيّر هذه المؤسسة بقبضةٍ من حديد، وهو مع ذلك يُؤمن بـ حُرية أي موظفٍ لديه في التعبير عن رأيه بكل صَراحة، حتى وإن كان مُخالفاً لـ هَواه، وكان لدَى هذا المدير مبدأٌ ثابت في أسلوب إدارته، وهو أن الاهتمَام بـ الأشياء البسيطة، حتماً سيقود إلى نجاحات كبيرة، ولو بعد حين.!
في يومٍ ما دخل أحد مكاتب المؤسسة، فوجد مُوظفة تشرب كوباً من الشاي الأحمر، تفاجئتْ الفتاة برؤيته، فـ انزلقت منها (كباية الشاي) واندلقت على كوُمة الأوراق المَرْصُوصَة أمامها على سطحِ المكْتب، والتي فيها مصالح الكثير من المواطنين، وابتلّ معظمها.!
بعدها مُباشرة أصدر المدير استدعاءات سريعة لكل مُوظفي المُؤسسة لحُضور اجْتماعٍ طارئ ليناقَش فيه أمرٌ مُهم، وأمَر أن تُغلق أبْواب المُؤسسة اليوم من الخارج مَع إلصاق إعْلان للمواطنين يُخبرهم بأن مُوظفي المُؤسسة كُلهم لَديهم اجتماع فوق العادة.!
(3)
بَعد أن جَلَس الجميع في قَاعة الاجتماعات الكُبرى، حَمْحَمَ المدير ثم قال:
- عارفين يا جماعة الاجتماع ده سببو شنو؟
هزّ الجميعَ رُؤوسهم عَلامة النفي.
أشَار المُدير بأصبعه السّبابة إلى فتاة تَجلس بَعيداً، ثم قال:
- المُوظفة دي انكشحت منها كباية الشاي في أوراق المواطنين، تخيّلوا يا جماعة لو اتمسح رقم شيك أو فاتورة بالملايين .. مصيبة وللاّ ما مصيبة؟
هتفوا بصوت واحد:
- مُصيبة!
واصل المدير:
- طيّب .. لو في نقطتين من الشاي استقرّت قدام رقم في مستندات مواطن .. وذادت فاتورتو .. دي مشكلة وللاّ ما مشكلة؟
هتفوا بصوت واحد:
- مُشكلة!
- إذن يا جماعة.. اليوم .. وحفاظاً على مستندات المواطنين.. وبما لي من صلاحيات.. أنا بفكّر في إصدار قرار يتم بموجبه عدم شرب الشاي الأحمر في مكاتب المؤسسة.. رايكم شنو؟
صَمَتوا بُرهةً، ثم قال أحد الموظفين:
- لكن يا سعادتك .. الشاي بساعد على التركيز .. والواحد بقدر يشتغل كويس .. ولو منعتو حـ يؤثر على أداء سير العمل في المؤسسة .. فـ أنا أقترح بدل إلغاء الشاي ..تصدر سعادتك قرار إنّو أي موظف يشرب الشاي بي كباية عندها (أضان).. عشان يمسكها كويس وما تنزلق منو تضر مستندات المواطنين.!
قال المدير:
- كلامك كويس يا بني .. أها يا جماعة .. موافقين على القرار ده؟
رفع أحد الموظفين يده قائلاً:
- لكن يا سعادتك أنا ما بتكيّف إلاّ لو شربت الشاي في كباية ما عندها أضان.!
وبعدها رفع موظف آخر يده وقال نفس الكلام .. ثم رفع عدد كبير أياديهم وقررّوا بأن مزاجهم لا يعتدل إلاّ إذا شربوا الشاي في كباية بلا (أضان).!!
انقسم القوم إلى قسمين: (جماعة الكباية أم أضان) و(جماعة الكباية بدون أضان)، وصاروا يتناقشون في هذا الأمر لخمس ساعات كاملة ولم يتوصّلوا لقرار نهائي، بعدها تم فضّ الاجتماع على أن يتم مواصلته غداً.!
(4)
لا زالت أبْواب المُؤسسة مُغلقة في وُجوه المواطنين، وتمّ تجديد الإعلان بأنه سيتم مُواصلة الاجتماع اليوم والأيام التالية، وأن كلّ هذا في مصلحتهم لو كانوا يعلمون.!
وفي قاعة الاجتماعات حَضَر المُدير وجميع الموظفين في الصباح الباكر، مَسَحَهُم المدير بنظرة شاملة وقال:
- بما إنو لحدي هسي ما وصلنا لي اتفاق .. وعشان الحكاية تكون منظمة.. أنا داير (جماعة الكباية أم أضان) تنتخب مُمثّل يتحدث باسمها، و (جماعة الكباية بدون أضان) تنتخب واحد برضو.!
رفع أحد الموظفين في (جماعة الكباية بدون أضان) يده مُرشّحاً نَفسه، وأبدى أسبابه بأنه مُوظّف له خبرة طويلة، ومن الكوادر القديمة في العمل الإداري، وهو مؤهّلٌ تماماً لتمثيل (جماعة الكباية بدون أضان)، ولكن مُوظّف آخر من نفس الجماعة رفع يده وترشّح ضدّه مُبدياً أسبابه بأنه لديه مَلَكة القيادة، ويمْتاز بـ الكفاءة العالية التي تجْعله أقْرب رجل للمنصب.!
وذات الأمر حدث في (جماعة الكباية أم أضان) حيث ترشّح لإدارتها ستّة موظفين كل منهم يرى أنه الأفضل لتمثيل الجماعة.!
(5)
قال شيخُنا:
- استمر الخلاف بين (جماعة الكباية أم أضان) وبين (جماعة الكباية بدون أضان) لمدة شهر، وهم يتناقشون حَول منْ أحقّ بتمثيل جماعته، خاصة أن المدير قد أسهم في تأجيج الصراع، فهو ترك حياده وصار يميل لـ(جماعة الكباية أم أضان)، لأن (الكباية أم أضان) تساهم في الحفاظ على مستندات المواطنين من الشاي الذي ينزلق صدفة، وطيلة هذه الفترة أغْلقت المؤسسة أبوابها في وجوه المواطنين بحجة أن لديها إصلاحات إدارية بالداخل.!
ثم أضاف شيخُنا:
- وهذا يا بُني هو نموذج المدير الذي ينشغل بصغائر الأمور التي تجعله ينسى عظائمها.
قلتُ لـ شيخنا وأنا مندهش:
- والله أمرهم عجيب يا شيخنا .. أنا ما بِتَفْرِقْ معاي لو شربت الشاي بـ (كباية أم أضان) أو بـ (بكباية بدون أضان) .. كلّو عندي واحد يا شيخنا .. كلّو واحد.!
ثم أضفتُ قائلاً:
- طيّب يا شيخنا.. أحكي لِي عن المدير الذي ينشغل بـ عظائم الأمور ويترك صغائرها التي تقود إلى هذه العظائم!
قال شيخُنا:
- يا بُني .. مساحتك لا تكفي لكل هذا .. دعها في يوم آخر.!
نهَضّتُ من مجلس (شيخنا) وأنا أتعجب من حكمته وقلت له بـ استسلام:
- فليكن يا شيخنا .. فليكنْ.!
0 التعليقات:
إرسال تعليق