الأحد، 10 يناير 2010

مذكرات زول ساكت

(1)
هذه الأيام تُعشعشُ في رأسي فكرةٌ حمقاء، وخاطر يأمرني بأن أكتب مُذكراتي، أنا أعْلم تماماً أنها حماقةٌ لا يجب أن أرتكبها في هذه الأيام، وهي لـ علمي -المُذكرات- لا يكتُبها إلا من عركته السنين، وعلّمته الأيام، وصقلتهُ التَجارب، وفي ذات الوقت يكون لديه شيء يمكن أن يُحكيه، وهذا كله لا ينطبقْ على العبدِ لله، وأنّك إذا سألتَ شخص ما:
- لماذا تكتب مذكراتك؟!
ستكون إجابته:
- أنه يكتُبها للهِ والتاريخ، أو للعبرةِ حتى تستفيدَ منها الأجيال من بعْده!.
أما أنا فلا أعدكمْ بأي شيءٍ من ذلك، سأتوكّل على الحيّ القيوم وأبدأ في سردِ بعضها حسب الظروف، وعلى عكسِ مُعْظم الكُتّاب، تجدهم يبدءون مُذكراتهم بأن القُرّاء طالبوهم بأن يكتبوا مذكراتهم ويتكلموا عن أنفسهم، أما أنا فلمْ يُطالبني أحدْ، وإنما هي مجازفة فردية، قد تكون مُملّة، ولكنني أعلم أن القارئ الكريم لديه حسٌ مرهف يمنعه من مصارحة الكاتب بأنه ثرثار وأحمق ومُمل.!
(2)
لكن في الحقيقة لا أدري من أين أبدأ، هل أبدأ من مرحلةِ الطفولة، عندما كنا نصطادُ الطيور، ثم نذبحها بطريقة خلع الرأس ثم رميه بعيداً، أم من مرحلةِ الطاشرات التي تمتد من سن الـ اثني عشر وتنتهي في التاسعة عشر، وهي السنين التي يبدأ فيها المرء بالتعرف على مشاعره وعواطفه ويتحسسَ الطريق نحو الاستقلالية، وينعتْ المراهقون فيها كبار السنْ بعباراتٍ على شاكلة:
- لا يفهمون شيئاً من الدنيا.! أو:
- راحت عليهم! أو
- أنهم يعيشون على نغمة يا حليل أيام زمان!.
يقولون هذا وهُمْ لا يعلمون أن الدائرةَ ستدور عليهم، وسيأتي مراهقون من أصلابهم يتحفونهم بنفس القول.!
(3)
في تلك الأيام -أيام المراهقة- أذكر أنني كنتُ أكتبُ شعراً، وهو حقيقةً من الصعبِ أن تسميه بـ الشعر، يمكن أنْ تُسمّيها حماقات أتتْ في موعدِها تماماً، وهي على غِرار:
جيت لقيت باب بيتكم فاتح
فجأة .. دخلتَ
قلتو لي اتفضل ..
قلت ليكم لا ..لا
راجنّي ناس برّة ..
راجنّي ناس برّة ..
راجنّي ناس برّة!!
وكانت لديّ عادةٌ سيئة وهي تجميع الحكمِ والأمثال في دفترٍ صغير، وهذه عادةٌ يفعلها مُعظم المراهقين الذين يظنّون أنّهُم يفعلون شيئاً مُهماً، وكعادةِ من هُمْ في هذا الطور، يظنون أنهم على حقْ والبقية أمامهم الكثير ليصلوا مرحلة فهمهم العالي، يكرهون كل ما يرجعهم للطفولة من قولٍ أو عمل، كنا نحلمُ بمستقبلٍ وردي، نسارعُ الخُطِى لنكبر سريعاً، نملكُ آمالٍ عريضة، وأحلامٍ مستحيلة، أي انطبق عليّ مثلما انطبقَ على الكثيرين جزءٌ كبير من تِلكْ الحِكْمةِ التي تقُول:
- البشر يملّون من الطفولة فيُسارعون ليكبروا، ثم يتوقون ليعودوا أطفالاً ثانية، يفكرون في المستقبلِ بقلق، وينسون الحاضر، فلا يعيشون الحاضرَ ولا المستقبلْ، يُضيعون صحتهم ليجمعوا المال، ثم يصرفون المال ليُرجَعُوا صحتهم، يعيشون كما لو أنّهم لنْ يموتوا أبداً، ويموتون كما لو أنهم لم يعيشوا أبداً.!
عموماً يمكنك أن تعتبر هذا موجزاً، ولا أعدك أن أسرد لك التفاصيل كلها حتى لا تتهور وترمي بالصحيفة بأقرب شباك، ولكن لنبدأ من البداية، من مسقط الرأس.!
(3)
وُلدّتُ في قرية صغيرة في الجهة الشرقية للنيل الأبيض اسْمها (الشوّال)، وهي قرية جميلة ووادعة، وبها أكبر عدد من الظرفاء يمكن أن تجدهم في مكانٍ واحد، وهي المكان الوحيد الذي أشاهد فيه الغروب على حقيقته، وأقصد منظر الشمس وهي تنزل تدريجياً وتغوص في أمواج النيل في منظر بهيج، وعلى الرغم من أنني عشتُ فيها أقل من أربعة أعوام؛ إلاّ أنني تأثرتُ بها كثيراً، وما أذكره أننا إبّان الطفولة كنا مولعين بصيد الطيور، حتى كنّا نظنُّ أننا أول من أدخل صيد الطير في العالم، ونستعمل لذلك –خلاف النبلة- شعرات طويلة تُقْطَعْ في العادة من ذيل حمار ضال، وتُرْبَطْ كُلّ شعرة على شكل أنشوطة في غطاء علبة لبن بودرة قديمة مخرّمة خصيصاً لهذا الغرض، نُُثَبّت غطاء العلبة على الأرض، وننثر فوقه بعض حبات الذرة، فـ يأتي طائرٌ أرْعن ليلقط الحبّ، ويقع في الفخ، ونأتي نحن الصيادين، نقبضه ونذبحه بطريقة ذكرتُها في الأعلى، ونشوِيهِ على الجمر، ثم نتقاسم الوليمة التي عادة ما تكون حوالي العشرين عصفوراً.!
(4)
أذكرُ في تلك الأيام، كنتُ أنا ومعي ابن عم ابن خالي، لا .. أقْصد أن خالي يبقي لعمته ابن أختها، أو .. لحظة من فضلكم .. أنا لستُ خبيراً في العلاقات الأسرية والنَسَبْ، المُهم أنه من أقاربي، هذا الفتي قام بمغامرة كادتْ أنْ تُكلفهُ رأسه الصغير، في ذلك اليوم لمْ نجدْ حماراً ضالاً لنقطع منه شعرات للصيد، فـ ذهبنا نحو حمار جدي المربوط بفناء الحوش الكبير –الحوش عندنا أكبر من ميدان جاكسون- المُهم، نحن نعرف تماماً شراسة حمار جدي، فقد عضّ أحد أقاربي في أذنه، وكاد أن يعضني يوما ما، كنت أنا مُكلفاً بإشغال الحمار حتى يتسنى لـ صاحبي قطع شعرات من ذيله، أتى من خلفه بهدوء، وأذكر أنا أتيتُ بحركة حمقاء، فـ رفع الحمار رجله ورفس صاحبي في رأسه وألقاه مترين إلى الوراء، وحتى يومنا هذا، صار كلما يراني يتحسس الكدمة في رأسه ويكاد يقول لي:
- كلّو منكّ.!

0 التعليقات:

إرسال تعليق