الأحد، 10 يناير 2010

عندما تأتي سيرة النعاج.. حكاية اختفاء نعجة!!

(1)

راعي البهائم دوماً مرتاح البال، وبالذات راعي الضأن، هذا بالذات لا يهتم بما يدور من مصائب في أنحاء العالم، لا يهمّه إن اتسع ثقب الأوزون أو ضاق قليلاً، إن أفلست أمريكا أو أرتفع سعر الموز، ولا شغل له سوى أن (الغنم اتعشّت).. (الغنم اتغدت) .. (الغنم شربت الموية).. ونصف الاهتمام بـ غنماية واحدة لو وجده أحد أطفاله لـ صار خبيراً في (الاندماج النووي)، وذو شأن في اليورانيوم الثقيل.!

من مميزات الراعي أنه لا يمكن أن ينسى ملامح بهائمه ولو لسنين عددا، والواحد منهم إذا كان لديه قطيع من الضأن به خمسمائة (ضاناية)، تجده حافظاً أشكالها وملامح كل واحدة على حده، وعلى الرغم من أن الضأن يتشابه فيما بينه كـ البطيخ، إلا أن صاحبها يصل معها مرحلة أن يطلق اسم منفرد لكل (غنماية) أو تيس أو بقرة، أو كل ما يمشي على أربع، ويمكن أن يكون اسم الغنماية (حمورة) أو (صفورة)، (زرقا)، (غبيشة) أو (كحيلة)، وإذا كانت هنالك بقرة اسمها (حمرة) – على سبيل المثال - فإذا ناداها صاحبها من وسط مائة من مثيلاتها، تجدها أتت مهرولة ملبية فروض الولاء والطاعة، وتقف بين يديه وتهزّ أذنيها بكل حماس، وذات الأمر ينطبق بالنص على الخراف والماعز وما شابهها من دواب.!

(2)

يُحكى أنه في قرية ما اختفت إحدى النعاج من راعٍ كان يعيش معه أخاه الضرير في قُطْيّة واحدة، وهذه النعجة بالذات كانت عزيزة عليه، ويفضّلها على بقية النعاج، وهي نعجة -حسب وصفه- تبدو عليها الوسامة، ولها عينان نجلاوان لا يفوتك ما بهما من ذكاء وحنكة، إنها نعجة تتمتع بـ جمال الطلعة والصوت الساحر، وربما بعض اللباقة، إذا رأيتها أنت –عزيزي القارئ- قد تقرر أنها أجمل من أي دستة مشابك غسيل مرت عليك، لكن صاحبها يراها هكذا، فـ النعجة في عين صاحبها غزال كما تعلمون.!

المهم .. أنهم بحثوا عنها في جميع أنحاء القرية، وداروا في كل الأباطح والوديان القصيّة، سألوا عنها جميع الرعاة المعروفين وأعطوهم أوصافها بكل دقة، ولكن لم يتبيّن لها أثر، فحزن عليها الرجل حزناً عميقاً، وكاد أن يقيم لها سرادق عزاء، فـ إختفاء نعجة من أي راع ليس بـ الأمر الهين على كل حال، ويعتبر من نوائب الدهر عنده، على الرغم من أن لدى صاحبنا أكثر من مائتي رأس من الضان، ما بين أقرن وأملح، أغبش وأملس، إلاّ أن اختفاء واحدة لهو أمرٌ جلل.!

مرت عليه الأيام والشهور التي خففت من حزنه قليلاً، وأنسته هذه المأساة، ولكنه كان يذكر مآثر النعجة المفقودة بالحسرة والأسى كلما أتت مناسبة استدعى فيها ذكر النعاج.!

(3)

بعد سنة ونصف.. ذهب الرجل وأخاه الأعمى لسوق المدينة المجاورة لشراء بعض اللوازم، وهذا السوق يعتبر مركزاً لتجمع الكثير من القرى، فكل قرية تأتي بما لديها من بهائم وذرة وغيره، رأى صاحب النعجة المفقودة تجمعاً من الخراف والنعاج على جانب من السوق، وكان به حوالي ثلاثمائة رأس، وقف عنده وقفةً لم تدم ثوان، ثم هتف بأخيه العميان بحبور ودهشة:

- اللمين!!.. الوجع الـ.. نعجتنا الما بتغباني ذاتها في وسط الكوم ده!!

ثم أمسك بيد أخيه وإتجها رأساً إلى صاحب الضأن، ودخلا له في الموضوع مباشرة بأن هذه النعجة تخصهم!! .. وأشار إلى واحدة كانت تجتّر بهدوء، نظر إليهم الرجل بدهشة، وسألهم عن قصة هذه النعجة، سردا له الحكاية بكامل تفاصيلها، بدءاً من اختفاءها في ظروف غامضة منذ سنة ونصف، وإنتهاءاً إلى أنهم لم يفقدوا العشم في إيجادها، طال الزمن أو قصر، إستمع لهم صاحب الضأن بذهول، وأضاف بأن هذه النعجة بالذات انضمت الي القطيع بالخطأ في ذات التوقيت الذي ذكروه، بعدها أبدى أصحابنا الرغبة في إقتياد نعجتهم الأثيرة معهم، ولكن هيهات.. الأمر ليس بهذه السهولة، فليس كل من هب ودب له أن يأتي ويشير الي نعجة ما بأنها ملكه وإختفت منذ عام ونصف ثم يأخذها ويذهب، كان هذا رأى صاحب النعاج، إنه صدّق قصتهم نعم، ولكنه يحتاج إلي دليل مادي وملموس، ما الذي يمنع أن هذه قصة ملفقة صادفت الواقع؟ وبما أن النعاج والضان عموماً لا تملك (بطاقات نعجية)، ولا تستخرج لها شهادات ميلاد، فلابد لهذا الدليل أن يكون مبتكراً ولا يخطر على بال.!

إلتفت صاحب النعجة الي أخيه الأعمي وشرح له أن نعجتهم المختفية من أمد بعيد ضمن هذا القطيع، وأنه الأمل الوحيد في رجوعها إلى الديار معزّزة مكرّمة، واقترح عليه أن يدخل وسط النعاج ويخرجها!!

لم يكذب الأعمى خبراً فدخل وسط البهائم، وأخذ يلمسهنّ نعجة نعجة، وأخيه وصاحب القطيع التزموا الصمت المبين في انتظار ما سيحدث، وما إن لمس الأعمى نعجتهم المنشودة، وتحسس أذنيها وحيزومها، حتى هتف بأخيه بأنها هي بعينها، فأمسكها وجرجرها للخارج وهي تحمحم باحتجاج، وهنا أسقط صاحب النعاج في يده، واقتنع بأن هذا دليل ملموس، ولم يملك إلا أن يقول :

- النعجة مبروكة عليكم!!

0 التعليقات:

إرسال تعليق