الأحد، 10 يناير 2010

قَرْية الشوّال: ذكْرَيَاتٌ وحَكَاوِي.!!

(1)

في واحدة أو اثنتين من (مذكرات زول ساكت) أتى ذكر قريتي ومسقط رأسي (الشوال)، لم أذكر أي تفاصيل عنها في المرات السابقة، مما دعا البعض بأن يطلبوا مني أن أتحدث عنها في مذكرة منفصلة، ولكن المشكلة أنني لا أحب الوصف، وبالذات المطوّل منه، والحمد لله مات (بلزاك)، ذلك الأديب الفرنسي ذو الروح الطويلة، الذي كان يطلب من تلاميذه هواة الأدب أن يمشوا في الحديقة عشر خطوات، ثم يكتبوا واصفين ما رأوه في عشرين صفحة.!

يمكنني أن أقلّد (بلزاك) فأصف لك كل حجر في (الشوال)، و كل شارع، وكل طاحونة، ولكن لا أريد أن استغلّ كرمك أكثر من اللازم، فـ الشوال قرية، بها معظم سمات القرى، الصهريج الذي يغذّيها بالمياه، صوت الوابورات وهي تولّد الكهرباء، السوق، المخبز، المراكب التي تجوب النيل وتفرد شباكها بحثاً عن الأسماك، هذا يسرج حماره تهيؤاً للذهاب لحواشته، وذاك عائد من مزرعته يحمل الخضار ليبيعه للمواطنين الأفاضل، بها شمس مثل التي لديكم في بلادكم، وشمسهم تسخن في الصيف وتبرد في الشتاء، بها أناس يخرجون لأعمالهم بالصباح ويعودون نهاية اليوم، بها رجال ونساء وأطفال، وكما قال الشاعر: كل الرجال (بها) على العموم مُذكّرٌ، أما النساء فكلّهن نساءُ.!

(2)

حسنٌ من أين نبدأ، سأصف لك موقع (الشوال) أولاً، هات الأطلس الذي منحته لك وزارة التربية والتعليم أيام كانت تُعطي الأطالس، هل تذكر أين وضعته؟ لا لم يعد تحت الفراش حيث تركته منذ أعوام، وليس فوق الدولاب كذلك، أرجو ألاّ تكون قد تخلصت منه؟ أخيراً وجدته، افتح معي الصفحة التي بها خريطة السودان، افتح تلك التي تصف الطرق، ضع إصبعك في مدينة (ربك)، وهي عاصمة النيل الأبيض وأنت سيّد العارفين، من (ربك) باتجاه الشمال وإنتَ ماشيّ على الخرطوم أحسب مسافة أربعين كيلومتراً مستعيناً بطريقة الخيط والمسطرة التي تعلمتها في الابتدائية، وأرجو ألاّ تكون من النوع الذي كان يسرح في حصة الجغرافيا حتى تتذكر هذه الطريقة، بعد أربعين كيلومتر من ربك ضع إصبعك في هذه النقطة بالذات، هذه هي (الشوال) على الخريطة، بالطبع لن تجد اسمها مكتوباً على خريطة السودان، ولكن للضمان انزل هنا، وإذا لم تجد أن هذه هي (الشوال)، فأنت قد ضللت طريقك ولا فخر.!

(3)

يحدّها النيل الأبيض من جهة الغرب، وشارع الخرطوم/كوستي من الشرق، ما أن تنزل من الأسفلت حتى ترى من بعيد أشجارها الخضراء، خضراء كـ لون أطلس الوزارة الذي أضعته، أما سبب تسميتها بـ (الشوال) يقال أنّه في قديم الزمان، في بداية الثلاثينات، أن هذه المنطقة كان بها تمساح يسبح بالقرب من الشاطئ، وكان يدور حول نفسه في الماء بحركة سريعة، وحركة دوران أي تمساح حول نفسه تسمى بـ (التشويل)، طبعاً أنت تعرف هذه المعلومة من زمان وهذه للتذكرة فقط، ومن كثرة (تشويل) التمساح في هذه المنطقة، تم تسميته (التمساح طبعاً) بـ (الشوّال)، وبمرور الزمن صار الأهالي يطلقون كلمة (الشوال) على المنطقة نفسها، وكما ترى يا عزيزي الفاضل أن الأمر لا علاقة له بـ(شوالات الخيش)، ولا حتى بجوّالات البلاستيك، لا أريد أن أطنب في سبب التسمية أكثر من هذا حتى لا يلحق هذا المقال بمصير الأطلس.!

أمسك أي فرد في (الشوال) تجد أن له عددا لا حصر له من الحكاوي التي لم تسمع بها في حياتك، فـ في كل قرية تجد ما يسمى بـ (ظريف القرية) ولكنني أحصيت في (الشوال) عشرات الظرفاء، عددهم أكثر من ورق الأطلس الذي فرّطت فيه، وأي واحد منهم له مواقف طريفة تملأ دفتراً، والحقيقة أن سيرة ظرفاء (الشوال) هذه تحتاج إلى مساحة أكبر، وسأتفرغ لها يوما ما إن مدّ الله في الآجال وكان في العمر بقيّة.!

(4)

أذكر أنني بدأتُ دراسة الخلوة هنالك، وكان الشيخ المكلّف بتحفيظنا القرآن يحمل سوطه في يده على الدوام، لم يكن يجلد به أحد حتى وإن أخطأ، ولكن كما يقول المثل، (يوجد مثل يطلقونه في مثل هذه الحالات ولكن لا أذكره الآن)، يمكنني أبتكر واحداً مثل (رؤية السوط في يد شيخ الخلوة أكثر إفزاعا من الجلد نفسه)، يمكنك أن تضف هذا المثل لقائمة الأمثلة المتعلقة بالسيطان، المهم أن رؤية السوط قد (لاوزت) بنا –أنا وأخي التوأم- فذهبنا إلى والدنا فأخبرناه بالحدث، حكى لنا طرفة حدثت أيام كان يدرس في الخلوة، وقد درس في ظروف أصعب من هذه بكثير، قال أنهم كانوا يذهبون للغابة المجاورة يقطعون الحطب، ويأتوا ليطبخوا طعامهم بأنفسهم، ما يأكلونه عادة يتكون من العصيدة و(ملاح اللايوق)، كانت العصيدة التي يقطعونها ويضعونها في الصحن ساخنة يتلاوى من فوقها البخار، ودرجة حرارتها أعلى من درجة انصهار الألمونيوم، بالطبع كان في الخلوة بعض الطلاب الحناكيش الذين لا يستطيعون أكل عصيدة درجة حرارتها أعلى من درجة الغليان، أما بقية الطلبة فـ يأكلونها كما هي ويتركون (القدح) يلوي بخاره وهو فارغاً، أما حناكيش الخلوة فـ كانوا يحتالون على الأمر بأن يقطع أحدهم سريعاً قطعة كبيرة من العصيدة ويلطخها بالحائط، وينتظرها حتى تبرد ويأتي ليفكّها ليأكل براحته، أحب أن أذكرك بأن الحائط مبني من الجالوص وتم تبييضه بـ (الزبالة) التي أصلها مخلفات الحمير، أعلم أن الأمر لا يفتح الشهية ولكن من (تحنكش) هناك سيموت جوعاً.!

(5)

حكى لي والدي أنه في يوم ما قطع أحد الطلاب قطعة لا بأس بها من العصيدة الساخنة وقذفها نحو الحائط، ولكنه أخطأ الهدف ولطخها على رأس زميله، الذي راح من سخانتها يولول كالهنود الحُمر حين يهاجمون معسكر الجنرال (كاستر)، وصار يصرخ وهو يقفز من مكان لآخر كخرتيت لسعته ذبابة في عينه.!

يقول مصدرٌ موثوق به: أن الشَعَرَ لم ينبُت في مكان لطخة العصيدة حتى لحظة كتابة هذه السطور.!

0 التعليقات:

إرسال تعليق