الثلاثاء، 23 فبراير 2010

القواصم في حياة العواصم.!!

(1)

كتبتُ أكثر من مرة أنني لا آتي إلى العاصمة الخرطوم إلا للشديد القوي، ولا زلتُ على هذا العهد، لنْ أشدّ إليها الرحال إلا لسبب لا يقلّ أهمية عن الحرب العالمية الثالثة، إذ أنني من النوع الذي يكره حياة المدينة ككُل، دعك من أن تكون هذه المدينة هي العاصمة، بكل زحامها وضوضائها وهوائها المشبع بأول وثاني وثالث وآخر أكسيد الكربون، ويخيّل إلي العبد لله، أن نسبة لا بأس بها من سُكان العاصمة المُثلثة، عبارة عن كائنات عصبية المزاج، تُقضي ثلث يومها في مشاوير هُلامية، والثلث الثاني في الجري وراء المواصلات، وتقضي ثلثها الأخير في الراحة من عنت الجري وراء المواصلات.!

أنا أسكن في مدينة (كوستي) وأحبها جداً، ولا أنوي الخروج منها في مقبل القرون القادمات، وأطول فترة خرجتُ منها هي فترة الجامعة التي قرأتها في العاصمة، وأذكر أن أول يوم لي في الخرطوم انتفشتُ غاية الانتفاش، وشعرتُ بسعادة محورية عظيمة إن صح التعبير.. ولا أظنه يصح، وتصورتُ أنها جنة الله في الأرض، وأنها منجم المادة الخام للسعادة.. إلى أن تبين لي العكس.! إذ أنني في الأيام الأوائل لي في العاصمة، قضيتُ أياما أسود من جلد الفيل، إن كان جلده أسودا.. ولا أظن.!

(2)

فـ في العاصمة -يا عزيزي المفضال- تحسّ بأنك (زول ساي)، وأنك جرمٌ صغير، وذرة غُبار لا تُرى بالعين المجردة، تدور في أطراف هذا العالم الكبير، وترى أن الجميع عبارة عن أشخاص مهمين غاية الاهتمام، ولا يوجد لديهم الزمن الكافي لكي يرمشوا، وتشعر أنك أنت الوغد الوحيد في البلاد الذي يملُك كل احتياطي الوقت الموجود في العالم.!

لا أدرى ما هو المعيار الذي يقيسون به السعادة هذه الأيام، لكن إذا افترضنا أنها يتم قياسها من منظر وجوه الناس الهائمة في الشوارع والأسواق، فليسجّل التاريخ أنني توصلتُ بعد فترة أربعة سنوات قضيتها في العاصمة -التي سئمتُ فيها تكاليف الحياة.. ومن يُعمّر أربع سنوات في العاصمة لا أبالك يسأمُ- توصلتُ إلى أن السعادة بِـ جهة، وسكان عاصمتنا –قدّس الله سرّها- في جهة أخرى بعيدة منها، أو هكذا خيّل إلى العبد لله.. والله أعلم، فأنت في السوق والشارع عندما تنظر إلى وجوه الخلق، ترى الناس يسيرون مكتئبون، فكل واحد منهم أما أنه خارج من مِحنة للتو، أو واقع في مِحنة سلفاً، أو على أبواب مِحنة لا يعلمها إلا الله.!

وكمان جابت ليها كلاب متوحشة في الأسابيع السابقة، ومن كثرة الزخم الإعلامي الذي صاحبها، وفي آخر زيارة لي هنالك، تصورت أن هذه الكلاب تأكل الناس في قلب السوق العربي في وضح النهار، حتى وأنا داخل الكافتيريا كنت أقبضُ على الساندويتش خاصتي بكل حرص، وأنا متأهب لأي هجمة كلب، باعتبار أن الكلاب إذا شاركتنا في طعامنا.. فالويل للكلاب.!!

(3)

أما عن الزحام، فهذا موضوع يستحق أن تُؤَلف فيه سلسلة مُجلدات بعنوان:

- قرع الطبول في زحام العاصمة المهُول.!

يقولون أن:

- الزحمة فيها الرحمة.!

وحسب تجربتي فهذه المقولة تنقصها الصحة، ولابد أن واضعها تاجر إجمالي، أو سائق مركبة عامة، ولا أرى وجهاً للرحمة عندما تعترك الأجساد، وتختلط الأنفاس، ويموج الناس بعضهم في بعض، وتلتف الساق بالساق، وترى الناس سُكارى.. وما هُم بسُكارى، وتتخيل أن الشمس من فوقك على ارتفاع متر واحد، وتتوقع أن يُنفخ في الصُور بعد قليل، وتجد أن حافلة واحدة لا غير.. يتدفق نحوها كمية من البشر، لو قالوا: (بسمْ الله)، لحملوها على أكتافهم، وتوجهوا بها تلقاء (الحاج يوسف) وهم يهللون بسعادة، فالناظر إلي مثل هذه الحافلة بعين العقل، يدرك أن فرصة الحصول على مقعد فيها، يشبه فرصة (بن لادن) في الحصول على مقعد في (الكونجرس الأمريكي).!

وعندما تعودُ إلى منزلك، تجد أنك قد اصطدم بك من الأمام حوالي ألف شخص، وداس على رجلك الكريمة سبعمائة نسمة، ودفعك من الخلف مثلهم، والرحمة الوحيدة في هذا كله هو أنك وصلت على قيد الحياة.!

حتى من يملكون سيارات خاصة، لا أظنهم يستمتعون بها كثيراً، في وسط هذا الزحام والاختناق المروري في ساعات الذروة، حيث تجد أنك تقود سيارتك بسرعة ستة كيلومترات في الأسبوع، أنني والحمد لله لم أكن أعاني كثيراً من زحمة شوارع العاصمة عندما أقود فيها سيارتي، لأنني لا أملك سيارة من أساسه، لأسباب بعضها يتعلق بالدخل القومي، والبعض الآخر بـِ صافي إجمالي الناتج المحلي للبلاد، ولكن حتى وإن كان، كنتُ سأركنها في البيت، أو استبدلها بدراجة هوائية وعشرة (سلوك أقاشي)، وسأصل إلى جامعتي أو مكان عملي قبل أن تُضيء إشارة المرور الخضراء.!

(4)

وهكذا توصلتُ إلى أن لله عبادا اختصهم بحُب حياة العاصمة، وأنا لستُ منهم بكل تأكيد، إذ إنني من النوع الذي يُحبّ الريف، واستمتع كثيراً بحياة البداوة والنقاوة والبال الهادئ والعيش الرغيد، يا ليتني أستطيع أن أرمي بساعتي وموبايلي وكمبيوتري والتلفزيون والثلاجة، وأودّع كل ما يمتُّ إلى الحضارة والمدينة بقرابة، وأذهب البادية.. إلى حيث استنشق هواء لا يكون فضلة خير الآخرين، هواء لم تدوّخه المراوح، ولم تروّضه المُكيّفات، ولم يتنفسه قبلي العشرات، أن أملأ صدري بنسمة تشبعت بماء النيل ورائحة التراب البكر، وأشرب الماء من مصادره الطبيعية، وأنضج طعامي بأعواد الشجر والأغصان الجافة، وكم أتمنى أن أركب حماري الأبيض ذاهباً إلى مزرعتي قبل شروق الشمس، ألقي بالتحية إلى (حاج حمد)، وأردّها بأحسن منها إلى (عم حسنين)، حاملاً طوريتي لأفتح بها المياه حتى تروي شتلات (الطماطم)، وتتسرب إلى جذور (البامية)، وتضخّ الحياة في عروق (القرع)، وأسدّها من جهة حتى لا تغرق (الجرجير)، أحب أن أحمل عصاتي أهشّ بها البهائم في الخلاء، فما أجمل منظر الضأن وهو يداعب الحشائش الخضراء، وكل المُنى أن أحلب اللبن من (غنمايتي) بيدي أنا.. لا بيد عمرو.!

(5)

ولكن.. المشكلة أن الحضارة كبّلتنا بقيود لا يمكن الفكاك منها بالهيّن، أنا ومعي آخرون يكرهون حياة المدينة كـ كراهيتهم للشيطان الرجيم، ولكنهم لا يستطيعون الخلاص منها، وعلى الرغم من أن المدينة تأخذ منك الصحّة وراحة البال، وتعطيك ما تعطيه مكحلةً، إلا أننا للأسف ليس بيدنا أن نغيّر في واقعها سطراً واحدا، ومضطرون للعيش فيها حتى إشعار آخر.!!