الاثنين، 15 فبراير 2010

من عجائب تريبة الأبناء

(1)

حسب خبرتي كـ ابنٍ بار، وحسب ملاحظاتي للكثير من أنماط التربية لدى الآباء، وجدتُ أن الآباء ينقسمون في طريقة تربية أبنائهم إلى عدة أصناف، منها أنماط أثبتت نجاحها وأخرجت للمجتمع أبناء ناجحين قدموا الكثير للبلاد والعباد، ومنها ما أخرج أبناء مصابون بعقد نفسية لم يفلح الزمن في معالجتها ومحوها، ومنها ما هو عوان بين ذلك.

الحقيقة أنه ليس كل الآباء من أولياء الله الصالحين، لذلك فالكثير منهم -حتى المتعلمين- يقعون في أخطاء فادحة في تسيير حياة أولادهم في اتجاه المستقبل، وكمثال لذلك هنالك نوع من الآباء والأمهات ممن يجتهدون كثيراً في رسم خارطة لحياة أبناءهم، يحددون لهم فيها ما يأكلونه ويشربونه ويلبسونه ويدرسونه، وما يجب عليهم عمله لمدة ثلاثين عاماً تبدأ من هذه اللحظة، وكل ذلك بحجة أن كل الأبناء أوغاد ولا يعرفون مصلحتهم، وسيرغمونهم على الرغم من أنفهم على السير في منظومة من التوجيهات الصارمة التي لا يمكن الحياد عنها، وتنتهي خططهم بأنهم سيتركون أبنائهم يقررون بقية مصيرهم عندما ينضجون.!

لكن المشكلة عندما يكبر هؤلاء الأولاد؛ يصبح من الصعب عليهم أن ينجزوا شيئاً يخصهم لوحدهم، فمثل هذا الابن اعتاد على من يفكر بدله، وعلى من يتخذ قراراته بالنيابة عنه، وقد نشأ على أن يجد كل شيء أمامه جاهزاً، فلا تنتظر منه بعد كل هذه السنوات أن يعتمد على نفسه، فـ الأب هنا بحسن نيته يُخرج ابنه إلى الحياة معدوم الخبرة، وقليل الاحتكاك مع مصائب الدنيا وكُربها، وعلى الرغم من أنه أفنى عمره لكي يُخرج منه شاباً يُعتمد عليه، إلا أن من شبّ على عدم الاعتماد على النفس.. فإنه غالباً ما يشيب عليه.!

(2)

نوع آخر من الآباء والأمهات يرتكب في ابنته ذنباً كبيراً، حيث تجد أن لديهم فتاة وصلت الخامسة والثلاثين من عمرها ولم تتزوج بعد، لأن أبيها وأمها من النوع الذي يتسلّى بطرد الخُطّاب والراغبين في طلب يد كريمتهم، لأنهم يرغبون في عريس من النوع الذي يأكل الطعام ولا يمشي في الأسواق، عريس يعجبه الصيام في رجب، بل ولديه الاستعداد التام للصيام في صَفَر ومُحرّم كذلك.!

مثل هذا الأب –غالباً- من النوع الذي يعرف قيمة ابنته أكثر من اللازم، ويؤمن بأن زواجها عبارة عن صفقة خاسرة، فهو الذي سهر من أجلها، وعلّمها وأطعمها وكساها، وأعطاها كل ما تريد ولم يستبق شيئا، ليأتي في النهاية شاب صفيق رقيع ليخطفها منه، ويؤزّها أزّا لتنسى أهلها إلى الأبد، ومثل هذا الأب على ما يبدو أنه ينتظر حتى يتقدم لابنته (صلاح الدين الأيوبي) شخصياً، أو على أقل تقدير (ولي عهد مملكة قتبان)، وعندما لا يحدث ذلك، ويفوت على ابنته قطار الزواج بسبب صلفه وتعسفه، تجده يعمل بالحكمة التي تقول:

- دع العسل في جراره.. إلى أن يعرف الناس مقداره.!

والمؤسف أن هؤلاء الناس في كثير من الأحايين لا يأتون أبداً.!

(3)

وعلى عكس الأب السابق تماماً، تجد رجل آخر من النوع الذي يعتقد أن البنت عبارة عن مصيبة فادحة وخطراً داهماً إلى إن تتزوج، وينتظر فرصة الخلاص منها في أقرب سانحة، وينتهز بادرة أول خاطب يطرق الباب طالباً يد ابنته الكريمة، فيزوجها إياه حتى ولو كان هذا المتقدم هو زميله عندما كانوا يدرسون في مرحلة الابتدائية سوياً، وهو هنا يرتكب خطأً لا يقل فداحة عن سابقه على كل حال.!

(4)

هنالك كذلك من نوع الآباء يعظّمون أبنائهم وبناتهم باهتمام يفوق الحد المسموح به بزيادة سبعين درجة على عدّاد الاعتداد بالبنين، يفتخر بهم ويبجلّهم ويضرب بهم الأمثال أمام الكل، ويبالغ في ذلك بطريقة قد تحرجهم مع زملائهم أو مع المجتمع الذي يعيشون فيه، وبطريقة تجعل غيره من الآباء ينظر لأبنائه نظرة ضياع ممزوجة بالأسى وقصر اليد الذي لم يجعله يوصل أولاده لمثل هذا المقام الرفيع.!

تجد مثل هذا الأب عادة ما يدخل كلمة (عيالي) في كل جملة مفيدة ينطقها أمام الناس، وكأن عياله هم (عيال أب جويلي الكمبلوا وعرضوا.. في دار كردفان اتغرّبوا وسدروا.. ضربوا الجوز عديل حاشا ما ضلّو.. لبنات البلد سمح الخبر جابوه).. معذرة يا شباب.. الظاهر أنا سرحتُ مع أغنية (محمد الأمين)، ومن الأفضل أن نعود إلى موضوع الآباء، هذا النوع من الآباء الذي يبالغ بالافتخار والانبهار بأبنائه في كل المجالس؛ يُعطي السامع إحساس أن أبناء الآخرين عبارة عن حمير ليس إلاّ!.. لذلك أبناء هذا الأب -غالباً ما- تجدهم يعاملون الآخرين بازدراء، وإذا تعمقنا في النفس البشرية أكثر، تجد أن بنت هذا الرجل من النوع الذي ينظر للكل من على سقف مرفوع، وعلى وجهها تعبير دائم من القرف، ومسحة من التعالي واللامبالاة.. معها سماجة وثقل ظل كمان، وكل هذا بسبب جرعات التضخيم في الذات التي تتناولها في منهج تربيتها، الذي يشعرها بأنها أعلى مقاماً من الجميع، ومن المفترض أن تُعامل على هذا الأساس.!

(5)

لستُ نحريرا ولا حجة في (علم النفس)، ولكن هذه مشاهدات التقطتها من خلال احتكاكي بالمجتمع، الكل يراها وملاحظتها لا تحتاج إلى مهندس صواريخ.. مع العلم أن ما أوردته أعلاه مجرد آراء شخصية، وهي ليست قوانين أو نظريات ثابتة، فهنالك أبناء خرجوا من أصلاب هكذا آباء، ولكنهم ممتازون ومتواضعون وذوو أخلاق عالية، وبالمقابل هنالك فتيات تم فيهن تطبيق جميع أنماط التربية السابقة، ولكن مع ذلك يتميزن بوعي ثاقب، ويرتفعن بمستوى تفكيرهن إلى درجة رفيعة، وبتهذيب وبحكمة في تقدير كل أمور الحياة.!

(6)

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم، مع كامل احترامي لكل الآباء، بكافة أنماط تربياتهم، فكل أب أدرى بتربية ابنه، ولا ينقصه مثلى ليذكره بذلك، فهذه مجرد تأملات أعتقد أنها تدور في أذهان الكثير من أبناء هذا الجيل، وملخص القول كله:

- إذا لم يستطع ابنك أن يرتفع إلى مستوى خطتك لتربيته.. فحاول أنت النزول إلى مستوى فهمه.. لعل هذا قد يجدي.. والله أعلم.!


0 التعليقات:

إرسال تعليق